قد يشكل دايفيد هيل نموذجاً لكل المتعاطين بالملف اللبناني ولكل المعنيين بالسياسة اللبنانية. قبل عقد كامل قررت إدارته «التورط» مجدداً في مستنقعات بيروت. مع أن التجارب السابقة غير مشجعة ولا إيجابية. سنة 1958 جاء المارينز من أجل «حلف بغداد». فانتهى الأمر بانهيار الحلف وبأول «ميني انفجار» في النظام اللبناني المستقل حديثاً. سنة 1982 تكررت المحاولة، باستدراج من شارون وبجنون لبناني.
فكان فشل آخر. محاولة تصفية القضية الفلسطينية في الخارج لم تلبث أن انفجرت انتفاضة في الداخل. بينما محاولة «أسرلة» لبنان انعكست عودة سورية إلى بيروت، وتلزيماً أميركياً لدمشق من أجل معالجة «بلد البرص»، كما أسبغ علينا بلطفه المعهود جورج شولتز. سنة 2004 كانت المحاولة الثالثة في الاتجاه نفسه. هذه المرة تولى جاك شيراك دور إغراء واشنطن. استدرج جورج بوش إلى شاطئ النورماندي في الذكرى الستين لتحرير أوروبا من النازية، وراح يرسم له سيناريوهات ملحمية عن إنزالات ونازيات على الشواطئ المقابلة من القارة العجوز. حتى نجح في أن يزين له مشروعاً نيو ــــ كولونيالياً مشتركاً على الضفاف الشرقية للمتوسط. اتفق الرجلان على تركيبة ثنائية متعددة المستويات لإدارة المعركة: بوش وشيراك في القيادة العامة. رايس وغوردو مونتانيو على المستوى الإقليمي وغرفة العمليات. والثنائي الشهير فيلتمان ــــ إيمييه ضابطان ميدانيان على الأرض.
انطلقت المعركة واندلعت الاشتباكات وبدأ سقوط الضحايا. أولهم رفيق الحريري وآخرهم كل لبنان. وبين الاثنين كل الجبهات كانت مفتوحة للحرب: عدوان تموز وعدوان لاهاي وعدوان البنك الدولي وأي عدوان آخر. بعد فترة وجيزة بدأ يتضح أن المحاولة ستنتهي إلى مصير مماثل لسابقتي 58 و82. صار اعتراف أميركي بالنكسة الميدانية، وإن لم يبلغ الاقتناع بسقوط المشروع. فصدر القرار بسحب الضابط الميداني. ذهب فيلتمان وجاءت سيسون. ثم سحبت سيسون وقدمت كونيللي. لكن الأداء كان نفسه. السياسة ظلت هي ذاتها. حتى بدت السفيرتان الفاضلتان أقرب إلى فيلتمان ــــ 2 وفيلتمان ــــ 3، أكثر منهما اسمين مستقلين. بعد أقل من عقد على التعنت، بدا أن أحداً ما في العاصمة الأميركية سأل نفسه: ماذا ربحنا من هذه السياسة في بيروت؟ وبدا أن من طرح هذا التساؤل كانت لديه الجرأة ليجيب: لا شيء. لأسباب غريبة ومستغربة أرسى الفيلتمانيون الثلاثة مبدأ محاصرتنا لميشال عون. فانتهوا إلى ضرب حلفائنا وتقوية حزب الله. حاولوا إسقاط الرجل بكل الوسائل. كانت النتيجة سقوط الحلفاء والأصدقاء وتنامي قوة الخصوم ونفوذ الأعداء. أحياناً قيل كلام كبير للرجل. ذات يوم أبلغ بما يشبه التهديد والقلق على حياته. فرد أن خطر أي حاملة طائرات لن يكون أشد على حياته من خطر قناص كان يرصده في سوق الغرب. وصلت الرسالة والجواب عليها، واستمر الكباش…
إلى أن جاء دايفيد هيل. قد يكون تعيينه المؤشر حول تغيير سابق في واشنطن. وقد يكون هو مساهماً في ذاك التغيير. وقد يكون حتى صانعه بهدوء وسلاسة وسلوك تدريجي. المهم أنه في غضون فترة قصيرة نسبياً، تمكن ممثّل واشنطن من تغيير الصورة. لم ينقلب على سياسة بلاده. ولم يحدث ثورة جذرية في توجهات إدارته. لكنه نجح سريعاً في كسر سياسة الحصار التي تحولت حصاراً ذاتياً. وانتهى بعلاقة طبيعية مع غالبية القوى اللبنانية. في مكان ما، يعتقد كثيرون من السياسيين أن الخرق الحاصل في جدار العداوات اللبنانية، منذ تشكيل الحكومة في شباط، ومن ثم تمرير بيانها الوزاري، بعدهما الخطط الأمنية وصولاً إلى التعيينات الإدارية… كل هذا المسلسل لم يكن ليمر لو أن فيلتمان ــــ 4 في عوكر. لا بل يجزم البعض أن هذا المسار كان إحدى النتائج البطيئة لعمل هيل منذ وصوله…
شيء ما من نموذج هيل يطرحه بعض الدبلوماسيين على سعد الحريري. يرسمون له مشهداً تحليلياً مطابقاً: منذ ثمانية أعوام والحريري الابن أسير المدرسة الفيلتمانية في السياسة اللبنانية. أما آن الأوان ليطرح على نفسه، وهو رجل الأعمال والأرقام، جدولاً أولياً بالمكاسب والخسائر؟ كيف يمكن تقويم قوة 14 آذار قبل تسعة أعوام واليوم؟ كيف يمكن توصيف العلاقات داخلها وبين مكوناتها؟ هل كان ميشال عون في اساس الحركة وأين أصبح ولماذا؟ هل كان جنبلاط رافعتها السياسية وأين هو اليوم؟ ماذا عن بكركي وحتى نماذج ميقاتي وآخرين كثر؟ ثم هل من الممكن رسم جدول مقابل لرصيد الحريري شخصياً؟ على مدى تسعة أعوام لم يكن الرجل في السلطة مباشرة إلا مدة 15 شهراً. وكانها مشلولاً مقيداً. قبلها كان سواه، وهو يدرك تماماً أن السلطة كانت مع سواه. وبعدها كان خصومه. اليوم من يعيده إلى موقعه المستحق؟ من يثمر شعبيته وشرعيته حيث يجب أن يثمرا ويستثمرا؟ سمير جعجع؟ بطرس حرب؟ روبير غانم؟ هنري حلو؟ فليقرر. لكن على سعد الحريري التدقيق في خياراته وحسمها وإعلانها. عليه أن يخرج من مدرسة فيلتمان بأسرع وقت. تماماً كما فعل دايفيد هيل ونجح.