كنا نتحسر على الأندلس، ونتلوع على لواء الإسكندرون، ونذرف الدمع على فلسطين.. فأصبحنا اليوم نتفجع على المشرق العربي برمته.
«أمجاد يا عرب أمجاد».. أمة تجذف عكس تيار التاريخ، وتفقد أرضا إثر أرض، ووطنا إثر وطن.. لأن الشغل الشاغل لقلة من المتطرفين من أبنائها ادعاء كسب الجنة، على حساب خسارة الأرض، بقتال مذهبي عبثي.
هل جاء دور ندب العراق؟
وهل يعقل أن يتحول التطرف الإسلامي إلى عامل إحباط لأمجاد العرب وعزتهم – ناهيك عن التنكر لشعرائهم ومفكريهم؟
إذا كان الجهاديون التكفيريون لا يدركون أن العراق قطعة استراتيجية قيمة من أمة العرب، فهل من عذر لحكام بغداد المتمذهبين لتجاهلهم كون العراق، قوميا، حامي الحدود الشرقية لأمة العرب، واقتصاديا دولتهم الثانية المنتجة للنفط؟
ربما كان كاريكاتير نشرته صحيفة «النيويورك تايمز» الأميركية أكثر بلاغة من الكثير من المقالات في ملاحظته أن «سلاح الدمار الشامل» الذي فشلت القوات الأميركية في اكتشافه بعد غزو العراق هو النزاع الشيعي – السني على السلطة.
إلا أن ما لم تذكره الصحيفة في هذا السياق كان دور الإدارة الأميركية في تحريك جمر نيران الفتنة الراقدة تحت الرماد، بدءا بقرارها المتسرع بحل الجيش العراقي عقب الاحتلال، ومرورا بسياسة «اجتثاث البعث» الفضفاضة، وأخيرا وليس آخرا بتغاضيها عن التدخل الإيراني المتزايد في شؤون العراق الداخلية، خصوصا في عهد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي.
يوم طرحت إدارة الرئيس جورج بوش (الابن) شعارا دونكيشوتيا لحملتها العسكرية على العراق (إقامة نظام ديمقراطي عامل على أنقاض ديكتاتورية صدام حسين) لم يصدق أي عاقل دوافعه «الغيرية» الخالصة. لكن الكثيرين أيضا لم يتصوروا أن تغادر القوات الأميركية أرض العراق قبل أن تضمن قيام نظام سياسي يراعي – على الأقل – تعددية العراق الإثنية والمذهبية، فتعوض، ولو معنويا، فشلها في فرض الديمقراطية قسرا على نظامه.
رغم مخافة الإيحاء بالقبول بجدوى «دبلوماسية البوارج» التي مارستها إدارة بوش في العراق، فلا بد من ملاحظة أن الانسحاب الأميركي المبكر من العراق ترك ساحته السياسية مشرعة للصراعات المذهبية التي كانت واشنطن تعلم تماما بتنامي تياراتها التحتية. وعوض أن تستغل نفوذها كقوة احتلال لتشجيع تشكيل حكومات جامعة تعكس تعددية المجتمع العراقي وتعيد، قدر الإمكان، لحمة أبنائه ووحدة أراضيه، سهلت تسليم مقاليده لسياسي معروف بانحيازه المذهبي وتعاطفه مع طهران.. فكان أن أدى الانسحاب الأميركي المبكر إلى اختزال «تمثيل» العراق بنوري المالكي وسياساته الإقصائية حيال السنة، وبجهات وأحزاب شيعية معروفة بعلاقاتها مع نظام طهران الثيوقراطي.
واشنطن كانت على بينة من مساعي طهران الحثيثة لإحباط قيام أي نظام تعددي في بغداد ينعكس سلبا – وربما خطرا – على صورة نظامها المركزي، كما كانت على معرفة استخبارية كاملة بعمليات التغلغل الإيراني المتنامي في العراق (الأمر الذي أكده البنتاغون لاحقا باعترافه بمؤازرة «عدد قليل» من العناصر «الثورية الإيرانية» لحكومة المالكي في عملياتها العسكرية).
قد يصح اليوم التساؤل: هل كانت لإدارة الرئيس بوش سياسة ما حيال العراق تتعدى رغبته الشخصية في التخلص من صدام حسين (وهو لم يخفِ حقده الشخصي عليه حين اتهمه بالتآمر على حياة والده)؟
مع ذلك لا يمكن التغاضي عن مسؤولية «غسل اليد» الأميركية المتسرعة من العراق عما يحدث اليوم فيه.
بمنظور مستقبلي، قد تستدعي تعقيدات الوضع في المنطقة إعادة تقييم أميركي رسمي لفشلها في إقامة ما طرحته الإدارة الجمهورية السابقة من «شرق أوسط جديد» والنمو الطفيلي «لشرق أوسط قديم» – كي لا نقول مذهبيا – على أنقاضه.
وإذا كانت اليوم ثمة مساعدة يمكن لواشنطن أن تقدمها للعراق – ولو متأخرة – فقد تكون بإحجامها عن «زيادة الطين بلة» بتدخل عسكري تكون حصيلته الميدانية المزيد من إراقة الدماء، والسياسية المزيد من الدعم للنفوذ الإيراني – علما بأن أي تدخل أميركي مباشر لن تقتصر تداعياته على العراق فحسب، بل ستتجاوزه إلى كل بقاع المشرق العربي، بحكم ترابط الخلفيات السياسية والمذهبية لاضطراباته الأمنية.