لا أفق في المدى المنظور لوقف الانهيارات المتتالية في العالم العربي. الرهان على مصر للاعتبارات التاريخية المعروفة يكتنفه الحذر الشديد الآن، بعد احتواء الحركة الثورية والتضييق عليها، وأثقال الوضع الاقتصادي، والاتكاء المتزايد على دول الخليج العربي والغموض في وجهة القيادة للتعامل مع قضايا المنطقة المتفجرة. والأهم من ذلك المناخ العربي المتصاعد على مستوى النخب السياسية والجمهور للانكفاء نحو القضايا والمشكلات الخاصة بكل بلد. ولعل ما يزيد المشهد تعقيداً هو حجم التدخل الإقليمي والدولي وسيطرته على مفاصل القرار السياسي للدول والحركات السياسية معاً.
لا توجد الآن «نقطة ارتكاز» يمكن الانطلاق منها والبناء عليها من أجل تغيير الوجهة التي أغرقت المنطقة بالفوضى وهي ترسّخ أكثر فأكثر مفاهيم الشرذمة والتقسيم بقطع النظر عن جدية هذه المشاريع وحظوظها في الحياة.
عنوان المرحلة لا يزال إفراغ المنطقة ما في جوفها من تراكم عناصر التخلّف بما هو بنيات اقتصادية واجتماعية أفرزت ثقافة سياسية مناهضة لفكرة التقدم. الاستبداد والظلامية، القمع والعنف الأهلي، الإحباط ونشر الفوضى، الشعور بالظلم وممارسة المظالم المقابلة، كلها معطيات أسقطت قواعد الاجتماع السياسي العربي السابق وأنتجت ظاهرة إزالة الحدود، ليس الحدود السياسية والجغرافية، ولا الاستهانة بمفهوم الدولة، بل حالة من العبث السياسي المصحوب بأعلى درجات العنف المعنوي والمادي.
لا قيمة فعلية لطروحات الإسلام السياسي وخاصة «إحياء الخلافة» التي تمزق المجتمعات ولا تساهم أبداً في وحدتها وتتحوّل سريعاً إلى إمارات طائفية معزولة ومتناحرة. كما ليس هناك من قيمة فعلية الآن لأي تصورات عن متحدات كبرى أو عن منظومات سياسية أوسع من كيانات مفككة قبل أن تحل مشكلاتها الداخلية وعلاقات مكوناتها وتحديداً في العراق وسوريا ولبنان. من حق أي شخص من «مثقفي السلطان أو مثقفي الأمير» أن يكون داعية لهذا أو ذاك من المشاريع التي فيها هروب إلى الأمام من أزمة العرب. لكن جَمْع الأزمات لا ينتج حلولاً، بل المطلوب حل الأزمات تمهيداً لظروف أفضل.
تتردد الآن مقولة «المشرقية» وكأنها بديل من صيغ أخرى سابقة، وكأن الفشل العربي نشأ عن الحدود الجغرافية وليس عن طبيعة تكوين الدول داخل هذه الحدود. ونلمح الآن في هذه الفكرة ظلال توسيع وتعاون «العصبيات» المتقاربة على المستوى الإقليمي بعد أن أورثتنا الكوارث على المستوى المحلي والقطري. فلا تستحق هذه الطروحات تسفيهاً أكثر من واقع الحروب الأهلية الدائرة الآن في هذه البلدان ولو أن ذلك يتم تحت إدارة إقليمية ودولية.
على أي حال لا يتقدم التاريخ وفق هذه التصورات والتوهمات، بل وفق فاعلية كتل بشرية فتّتتها الأنظمة التسلطية وحبستها في مربعات من الهويات الفئوية ومن المصالح المتناقضة داخل المجتمع الواحد. أزمة العرب الآن هي نتاج الفجوة العميقة بين الهوية الوطنية والدولة التي تجسدها وبين «المواطنة» التي هي جذر الانتماء إلى الهوية الجامعة والدولة الشرعية. ينهار العالم العربي القديم أمامنا، بينما يحاول البعض استعادة أدواته وأفكاره والدفاع عن قواه دون جدوى. سوف لن نخرج من هذا المأزق إلا وقد حرّرنا أنفسنا من عقدة المسؤولية التي نضعها دائماً على «الخارج». فما نحن فيه هو الحصيلة الواقعية لإخفاقات كبرى مسؤولة عنها الفئات التي ملكت قرار العرب دولاً وشعوباً وأساءت استخدام القرار بوعي أو بغير وعي.
ما الذي يدعونا اليوم لإعادة تجريب المجرّب من صراع «الخلافة والإمامة» أو تفضيل نموذج طائفي على آخر وتأييد حزب أو جماعة على حساب أخرى؟ فهل قدّمت سلطة العراق اليوم حلاً لشعب العراق، أو سلطة سوريا حلاً لشعب سوريا أو كشكول لبنان الطائفي حلاً لشعب لبنان لكي نتصور أن اجتماعهم ربما تحت وصاية إقليمية نافذة يقدم حلاً لمشكلات المنطقة؟ بل ماذا قدمت ثورات ومقاومات من حلول طالما هي افتقدت إلى الفكرة الأخلاقية الوطنية الجامعة وطغت عليها «المصالح السياسية» العصبية أو الحزبية أو صادرتها الجهات التي قدّمت لها الدعم و«سمّنتها»؟
ليس الجواب على هذه القضايا والتحديات سهلاً وسريعاً ولا هو مرهون الآن لدور فئات قام تاريخ نصف قرن على تهميشها. لا بد أن يدفن الموتى موتاهم وأن تبلغ هذه المأساة نهاياتها لكي تصغي الشعوب العربية لمنطق آخر مختلف أساسه كيان الفرد الإنساني ومعايير تقدمه لا تظاهرات القوة المادية التي لا تعرف إلا تقديم الأضاحي لأصنام الفكر وأوثان العصبيات.
المعركة الآن هي أنسنة المشروع العربي لا استعادة موروثاته وأصنامه.