في زمن الأحزان، انبثقت لحظة فرح من خارج التوقع، مع عودة الرئيس سعد الدين رفيق الحريري إلى بيته وأهله في وطنه الذي يعيش واحدة من أخطر ما واجه في تاريخه الحديث من أزمات مصيرية.
لقد استطال الغياب أكثر مما يجوز، مهما كانت مبرراته، وأكثر مما تحتمل مسؤولية الموقع المميز الذي يحتله الرئيس سعد الحريري شعبياً، أي وطنياً، وبمعزل عن المناصب الرسمية.
إن القيادة مسؤولية. ومن شرَّفه الشعب بثقته مطالب بالحضور دائماً، وبالذات في زمن الصعوبة… وها هم اللبنانيون يعيشون في قلب المخاطر متعددة المصدر، وهي تشمل الدولة بمؤسساتها جميعاً، لا سيما تلك التي تجسد الوحدة الوطنية (وتحميها في آن) وفي الطليعة منها الجيش.
إن موقع الرئاسة الأولى فارغ، ومرشح لأن يبقى فارغاً حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً..
.. والمجلس النيابي مفتوح على الفراغ، يأتي إليه النواب فرادي ويمتنعون، بل يمنعون من إكمال النصاب وإقرار ما تراكم من مشاريع قوانين (أكثرها معجل!!)، مما يشل الحكومة والإدارة ويعطل الدولة بمؤسساتها المختلفة، فيستحيل الإنجاز في مختلف المجالات.
.. أما الحكومة، التي استولدها الخوف من الفراغ الشامل، فمضطرة لأن تسير بخطى أضعفهم فيها، وهي مهددة في قرارها إذ يكفي أن يعترض وزير واحد من أصل 24 حتى تصاب بالشلل، في انتظار استرضاء صاحب الاعتراض (محقاً كان أم غير محق..) بينما تتراكم المشكلات والأزمات، اقتصادية ومالية واجتماعية… وتجري الألسنة باحتمالات ومخاوف شتى، بينها العجز عن تأمين الرواتب لأهل الإدارة وموظفيها، بما في ذلك المؤسسات الأمنية التي تواجه مخاطر غير مسبوقة تتهددها في وحدتها ذاتها، وليس فقط في قدرتها على أداء دورها الوطني وإنجاز المهمات الثقيلة التي تواجهها الآن.
وباختصار، فإن اللبنانيين عموماً، ولأية طائفة انتموا، يعيشون قلقاً ممضاً على حاضرهم وخوفاً عميقاً على المصير: يخافون من تداعيات الحروب ذات المنحى الطائفي التي تخلخل أركان دول عريقة في المنطقة كانت مضرب المثل في متانة وحدتها الوطنية وصلابة مجتمعاتها في مواجهة دعاة الفتنة والعاملين لها (من الداخل أو من الخارج، لا فرق..)..
.. ويخافون من دعاة الفتنة والمحرضين عليها في الداخل… مع الإشارة إلى أن معظم بلاد المشرق العربي، وبالذات سوريا والعراق، قد غدت بلا داخل. إذ أسقط الآتون من الجاهلية تحت راية إعادة «الخلافة» الحدود بين «ولايات بلاد الشام»، وأعملوا القتل في أهلها، وإن استسلموا، فإن أشفقوا على غير المسلمين منهم طردوهم من ديارهم، وهم حفظة تاريخها وبناة ماضيها، نساخ القرآن الكريم وواضعو قواعد اللغة ومنشئو الدعوات الوحدوية ودعاة التقدم فيها.
واللبنانيون بطوائفهم جميعاً هم الأشد خوفاً، ليس فقط بسبب التداعيات الخطيرة الوافدة، بل أساساً لأن خلافات فرقهم السياسية قد استعصت على أية تسوية: وأوضاع الدولة التي هزتها بعنف الأحداث الدموية في عرسال ومحيطها الجردي، خير شاهد وأبلغ دليل.
إن الوحدة الوطنية قد أصابها الكثير من التصدع، والخلافات التي كانت في الأصل، سياسية قد غارت عميقاً في جسد «الكيان» الذي منعته الطائفية (والمذهبية) من التحول إلى وطن..
لقد كشفت الأزمة الدموية التي تفجرت في محيط عرسال، كبعض من تداعيات الحرب في سوريا وعليها، هشاشة المؤسسات التي تتكوّن منها الدولة، سياسية وعسكرية وأمنية وإدارية… والأخطر أنها كشفت مكامن الخوف العميق الذي يعيشه اللبنانيون بوصفهم رعاة للطوائف، ولا وطن له دولته القادرة والمؤهلة على تطمين أبنائه، لأي دين أو طائفة انتموا.
إن عرسال أبرز شهداء هذا الوضع المتفجر الذي يعيشه اللبنانيون.
ولا علاج لعرسال التي كانت الضحية الأولى لخطأ التقدير وخطأ الرهانات المغرضة وقصيرة النظر، إلا بعلاج الوضع المغلوط الذي تفاقمت مخاطره حتى باتت تتهدد الدولة في وجودها والشعب في وحدته.
وأهلاً وسهلاً بك دولة الرئيس سعد الحريري تعود إلى أحضان وطنك وهو يعيش ـ بدولته وشعبه ـ ذروة الخطر على المصير.
إن عودتك بشارة خير باحتمال التصدي لهذا الخطر المحدق بالوحدة الوطنية التي هي شرط حياة لهذا الوطن الصغير..
وبالتأكيد فإن من ألحّ عليك بالعودة، التي كنت تستعجلها، قد عمل كثيراً حتى توفرت له ضمانات دولية مقنعة حول إمكان تجاوز لحظة الخطر التي نعيشها في لبنان،
فأهلاً بك في بيتك ووطنك تعيش مع أهلك زمن الخطر، مشكّلاً بوجودك معنا إحدى الضمانات بإمكان تجاوز المحنة.
والآن هيا إلى العمل لتوطيد الوحدة الوطنية وترسيخها، متجاوزاً كل ما كان من أسباب الخلاف إلى حد الفرقة.. فالوطن يحتاج الجميع، وكذلك دولته المهددة بمخاطر كثيرة لا تختصرها «داعش» حتى لو كانت العنوان، خصوصاً وأن «الداعشيين» في لبنان كثر ليس في عرسال ومحيطها فقط، بل في الكثير من أنحائه شرقاً وجنوباً وشمالاً، فضلاً عن العاصمة الأميرة ـ بيروت.