Site icon IMLebanon

أوباما يختار استراتيجية تجنيد الآخرين في الحروب الأميركية

لم يأتِ الرئيس باراك أوباما برؤية للسياسة الخارجية الأميركية وأمنها القومي في السنتين المقبلتين مغايرة للرؤية التي بدأ فيها عهده رئيساً للولايات المتحدة، فالرجل منذ البداية أوضح أنه لن يحارب ولن يخوض مغامرات عسكرية مباشرة لأنه يتبنى سياسة شن الحروب السرية بطائرات من دون طيار (درونز) Drones ويوكل التجنيد البشري في الحروب لغير الأميركيين، أي ما يُعرَف بـ Subcontracting. باراك أوباما منذ البداية قرأ الشعب الأميركي بأنه لا يريد للقوات الأميركية المسلحة أن تدوس ساحات المعارك في حروب الآخرين، وهو فهم تماماً أن الحروب الأميركية الجديدة تتطلب قطعاً ألا تعود الجثث الأميركية من ساحات المعارك، فجعل من ذلك أولوية له. ما لم يتمكن أوباما من إنجازه في سنواته الست الماضية هو إقناع شعبه والعالم بأن سياساته الخارجية صائبة لجهة المصلحة القومية الأميركية أو لجهة القيادة الأميركية الدولية، حتى في ما أسماه بالحرب على العنف المتطرف –متجنباً استخدام تعبير سلفه جورج دبليو بوش بالحرب على الإرهاب– بدا أوباما ساذجاً في افتراضه أن قتل أسامة بن لادن سجّلَ له تركة Legacy يشهد له التاريخ بإنجازها، فالتطورات السورية أثبتت فشل أوبامية الامتناع والتنصّل والنأي بالنفس، حيث إن تلك السياسة ساهمت جذرياً في إطالة النزاع وفي تفريخ الإرهاب المحلي والإقليمي والدولي الذي قد يطيح بمزاعم القضاء عليه أو ردعه عن الساحة الأميركية، وبالتالي فإن تلك التركة هشة ومعرضة للانتكاس. التركة الأخرى التي يصر الرئيس الأميركي على التصاقها باسمه، هي بدورها هشة، على الرغم من عزمه وإصراره على إنجازها، وهي التسوية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. نووياً، ستستمر المفاوضات، لأن الأطراف عازمة على البقاء على الطاولة، كلٌ لأسبابه، أما إقليمياً فإن على أوباما أن يكف عن الاختباء وراء إصبعه وأن يواجه الطموحات الإيرانية الإقليمية بصراحة ليقرر إن كان سيدعمها أو سيساوم عليها، فالجميع يشكك في غايات أوباما، وهذا مسيء ليس فقط لسمعته وإنما أيضاً للأمن القومي الأميركي على المدى البعيد. وقد حان لباراك أوباما إيضاح مَن هو وماذا يريد وماذا يفعل حقاً فيما يتظاهر بأنه لا يتدخل وأنه فوق المغامرات. حان له أن يقر بأن معظم سياساته فشل مهما بدا له سراب النجاح.

وبداية من مصر، فإن خطاب أوباما هذا الأسبوع أمام أكاديمية «ويست بوينت» الحربية في نيويورك، رسم رؤيته ولفت إلى «علاقاتنا المبنية على المصالح الأمنية في مصر، من معاهدة السلام مع إسرائيل إلى المصالح المشتركة ضد العنف المتطرف». قال: «لم نقطع تعاوننا مع الحكومة الجديدة، بل يمكننا وسنضغط باستمرار (لإقرار) إصلاحات طالب بها الشعب المصري».

أكثرية الشعب المصري لا تثق بباراك حسين أوباما، والبعض يعتبر أنه دعم صعود «الإخوان المسلمين» عمداً إلى السلطة في مصر، وأنه جزء أساسي من مشروع «الإخوان» الأوسع في الشرق الأوسط. بغض النظر عن صحّة هذه المشاعر أو إفراطها، فإن باراك أوباما لم يعد الشخصية المحبوبة التي دشّن فيها وصوله إلى البيت الأبيض بالذات في خطاب القاهرة الشهير. بات أوباما شخصية مكروهة، مشكوك في غاياتها، لا ثقة بها بعدما فعله في مصر وتونس وليبيا واليمن وسورية، إما دعماً لصعود «الإخوان المسلمين» إلى السلطة بادعاء الاحتضان الشعبي لهم، أو تحقيراً لقوى الاعتدال والعلمانية التي أسرع أوباما ومساندوه إلى حذفهم من المعادلة السياسية فارتكبوا خطأً ذريعاً.

مصر اليوم تفتخر بإفشال المشروع الأخطر على المنطقة العربية برمتها –مشروع «الإخوان المسلمين»–، وهي في الوقت ذاته ذات أكثرية متدينة أثبتت وعياً هائلاً بإصرارها على فصل الدين عن الدولة. الرئيس الأميركي اختار إما ألاّ يفهم ذلك أو ألا يعجبه ذلك.

قد يكون لشعبية المرأة المصرية غير المثقفة، منى البحري، ناحية فولكلورية، لقولها بالإنكليزية المكسّرة «شت أب يور ماوس أوباما» كي لا يتدخل لصالح الرئيس الإسلامي المخلوع محمد مرسي ضد المرشح الرئاسي وزير الدفاع السابق عبدالفتاح السيسي، لكن هذه المرأة الناشطة سياسياً باتت أيقونة التحدي للاحتضان الأميركي لـ «الإخوان المسلمين»، وحسناً فعلت عندما أشارت مؤخراً إلى تكريمها شعبوياً في المنطقة العربية وهي المرأة العادية مقارنة مع نبذ الأكثرية الشعبية للناشطة اليمنية توكل كرمان التي حازت جائزة نوبل للسلام لصالح «الإخوان المسلمين»، فتوكّل منذ البداية لم تكن مؤهلة لمثل هذه الجائزة، ولقد أتى بها الغرب «بروازاً» لما سموه حينذاك الإسلام المعتدل الممثل بـ «الإخوان المسلمين»، فخيبوا الآمال، وهي زادت من الخيبة تكراراً.

مصر تنهض اليوم وتقول للولايات المتحدة إنها صديقة إنما بمعايير مختلفة. لم يكن بالرئيس الأميركي حاجة ليقول «يمكننا وسنضغط باستمرار لإقرار إصلاحات طالب بها الشعب المصري»، فالشعب المصري يرفض اليوم تلك اللغة ويعتبرها مهينة. إنه يحاسب على طريقته، وباختياره، وهو لم يعد رهينة المعونات الأميركية التي تم حجبها للجمه وتسييره، فثار. إنه شعب يصر على الإصلاح ويبلغ رسائله مباشرة.

اختار الشعب المصري عبدالفتاح السيسي رئيساً لكنه أبلغ إليه أثناء العملية الانتخابية أنه لن يكون أسطورة فوق الواقع وممنوع عليه أن يظن نفسه فرعونَ جديداً. ضعف المشاركة في الانتخابات كان رسالة إيقاظ إلى واقع الشعب المصري وإصراره على أن الشعبية ليست رخصة للرئيس الجديد لطمس الحريات، ولا هي مصعد خاص به لحمله فوق الدولة. جاءت المشاركة الضئيلة نسبياً لتبلغ إلى السيسي أنه سيبقى تحت إرادة وتوقعات الشعب، لأنه من صنع إرادة الشعب وتطلعاته.

هذه تحوّلات جذرية في المسيرة المصرية يجدر بالقيادة الأميركية التنبه إليها، كما يجدر بالإعلام والقيادات الفكرية الأميركية أخذها في الحساب، فمصر تقود في المنطقة العربية، تدعمها في ذلك السعودية والإمارات بالدرجة الأولى،عبر ضخ ضروري للأموال في البنية التحتية المصرية. ومن الحكمة لواشنطن الرسمية والفكرية والإعلامية أن تكف عن الانصباب حصراً على قيادة إيران للشرق الأوسط، لأن هذا التفكير بات بالياً.

الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن تكون مقبولة قائداً للمنطقة العربية، بغض النظر عما إذا تم التوصل بينها وبين الولايات المتحدة على قدرات نووية رهن التأجيل مقابل رفع العقوبات تدريجياً مقابل التنفيذ. ايران دولة مهمة ولها مكانتها في الشرق الأوسط بلا أي شك، انما هذا يجب ألا يُفسَّر أميركياً بأنه تخويل لإيران زعامة الشرق الأوسط أو قيادة المنطقة العربية مهما تغلغلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية في العراق أو مهما خيّل لـ «الحرس الثوري» الإيراني الفوز بسورية.

للرئيس باراك أوباما كل الحق في العمل نحو تسوية الخلافات الأميركية– الإيرانية، وله الحق في قول إنه «للمرة الأولى منذ عقد نحن أمام فرصة لإبرام اتفاق أكثر فاعلية وقابلية للاستمرار من استخدام القوة» مع إيران، مقرّاً في الوقت نفسه بأن «فرص النجاح ما زالت بعيدة»، ومؤكداً: «نحتفظ بكل الخيارات لمنع ايران من امتلاك سلاح نووي».

للرئيس باراك أوباما كل التوفيق في سعيه لإقناع طهران بتنفيذ تعهداتها النووية كاملة كي يتمكن من نسج تلك التركة بأنه أنجز أولاً تحييد إيران عن تنفيذ القدرات النووية، وثانياً صاغ علاقة ثنائية تهادنية ألزم فيها الولايات المتحدة دعم نظام الملالي في طهران وتعهد بعدم دعم المعارضة أو الحركات الإصلاحية للنظام، فهذان مطلبان أساسيان لطهران: الإقرار الأميركي بحقها النووي، والاعتراف بشرعية نظام الحكم في ايران ضمن علاقة ثنائية قوية.

الخلاف هو على المطلب الثالث لطهران، وأساسه ضمان الموافقة الأميركية على دور إقليمي لها يتعدى حدودها، بما يؤدي إلى تشريع أميركي للتدخل المباشر والهيمنة الإيرانية في الدول العربية، وهذا خطير، ليس فقط من منطلق مصير العلاقة الأميركية مع الدول العربية، التي ترفض قطعاً الإذعان للهيمنة الإيرانية وترى فيها تهديداً لأمنها القومي وللأمن القومي العربي، بل هو خطير لأن مثل هذا التشريع الأميركي أو الشرعنة الأميركية للأدوار والطموحات الإيرانية الإقليمية سيؤدي إلى تأجيج الصراع الطائفي وسيؤدي أيضاً إلى إنماء الإرهاب وانتقام التطرف السلفي من الولايات المتحدة الأميركية.

مقولة أو سياسة تحويل سورية إلى مقبرة للإرهاب السنّي خرافة، وغض النظر عن التوغل العسكري لإيران في سورية، المباشر منه وغير المباشر عبر حلفاء طهران، سياسة مكلفة للمصالح الأميركية القومية على المدى البعيد. الرئيس أوباما أعلن في خطابه أن «الإرهاب هو التهديد الأبرز للولايات المتحدة في المستقبل القريب»، مستدركاً أن هذا التهديد تحول من مركزية تنظيم «القاعدة» إلى فصائل أخرى، وقال إن على الرد الأميركي أن يتغيّر.

ما طرحه باراك أوباما هو استراتيجية تجنيد الآخرين في الحروب الأميركية وإيكال مهمات ملء الفراغ الناتج عن التنصل الأميركي إلى الآخرين. تحدث عن «تأسيس صندوق شراكة مقداره 5 بلايين دولار لمكافحة الإرهاب» في البقعة الإسلامية الممتدة من اليمن والصومال وليبيا ومالي وأفغانستان وشمال أفريقيا والشرق الأوسط، ووضع سورية في واجهة مكافحة الإرهاب، عبر إعلانه أن جزءاً من الصندوق سيُخصص لسورية.

ولأن أوباما هو أوباما، استدرك ليناقض نفسه في نص واحدٍ، فقال إن «لا حل عسكرياً لإنهاء النزاع المؤلم في وقت قريب»، وأكد على «صوابية» عدم إرسال الجنود الأميركيين إلى «هذه الحرب الأهلية»، إنما زاد: «لكن هذا لا يعني أننا يجب ألاّ نساعد الشعب السوري في النضال ضد ديكتاتور يقصف شعبه ويجوّعه». وهو أكد أنه سيطلب من الكونغرس دعم أولئك في المعارضة السورية «الذين يقدمون أفضل بديل من الإرهابيين والديكتاتور الوحشي»، في إشارة إلى الرئيس بشار الأسد، وتحدث عن شراكة مع دول صديقة لمكافحة هجمات منفردة للدفاع عن «مصالحها الحيوية» و «أمن حلفائها».

ما يريده الرئيس الأميركي إذاً، هو اتخاذ أنصاف الخطوات في تمكين بعض أطراف المعارضة السورية وتدريبهم على حرب مستحيل لهم الانتصار فيها، سيما بركاكة الدعم لهم وعلى جبهتين لإسقاط النظام وإسقاط الإرهاب. هذا توريط للمعارضة ودفعها إلى الانتحار وليس دعماً لها. هذا هروب إلى الأمام وليس استراتيجية جدية لمكافحة الإرهاب برد أميركي جديد. هذا خضوع أمام الأمر الواقع كما تمليه الجمهورية الإسلامية الإيرانية في سورية بالتنسيق مع روسيا والصين، وهو أبعد ما يكون عن الوعي لعلاقة صحيّة ضرورية بين الولايات المتحدة وإيران من جهة وبين الولايات المتحدة والدول العربية من جهة أخرى.

فالرجاء من الرئيس باراك أوباما أن يوضح قراراته ويبسّط لنا رؤيته للسنتين المقبلتين إذا كان حقاً قد صاغ رؤية مختلفة بناءً على دروس أخطائه في سورية ومصر، وليتفضل ليشرح ماذا ستكون استراتيجيته إذا رضخ أمام إملاء طهران بأدوار إقليمية موسّعة وأدّت مباركته الدورَ الإيراني العسكري في سورية إلى انتقامات إرهابية، ليس فقط في إذكاء الصراع الطائفي الدموي في الساحة الإسلامية وإنما في عقر الدار الأميركي أيضاً.

ليت الرئيس أوباما يصوغ تلك السياسة الجديدة الضرورية في شأن سورية، بعدما أدى فشل الجميع من دون استثناء الى هذه الحالة المزرية. أنصاف الخطوات المتقلبة بين اللاحسم العسكري واللاحسم السياسي إنما تؤجج الأوضاع، وهي ستكون مكلفة بالتأكيد لجميع اللاعبين، منخرطين كانوا أو ممتنعين ومتنصلين.

وفيما يعمل الرئيس الأميركي على صياغة تركته أو سمعته على الأوتار الإيرانية، لعله يتذكّر أن سلفه الرئيس بيل كلينتون أنجز اتفاقية «كيوتو» لتكون حجراً أساسياً لتركته، ثم أطاح بها الكونغرس وتركه بلا تركة.