كانت امام قائد الجيش خيارات اخرى يلتف بها على من يريد إحراق الجيش
أدت معركة عرسال إلى عدد من الشهداء والاسرى والجرحى. لكن ثمة خلاصات سياسية تبدو، للوهلة الاولى، خطرة بقدر خطورة المعركة، وتتعلق بادارة السياسيين ملفاً حساساً بخفّة لا تشبه ما ينتظر البلد من تحديات
ما آلت اليه معركة عرسال هو، ببساطة، نتيجة المراهنة على رئيس الحكومة تمام سلام والرئيس سعد الحريري وهيئة علماء المسلمين والنائب جمال الجراح ممثلاً كتلة المستقبل، في المفاوضات بين الجيش ومسلحي «داعش». ولم يكن يمكن لمن راهن على هؤلاء، مضافاً اليهم وزراء الكتائب والتيار الوطني الحر، الذين وقفوا متفرّجين على صفقة مفاوضات حكومية مجتزأة مع «داعش»، الا ان يصل الى هذه النتيجة: انسحاب المسلحين ومعهم جنود الجيش اللبناني.
من اخطأ ومن اصاب في هذه المعركة التي ستكون مفصلية في حياة كثيرين نظرا الى أنها حصلت في ظروف سياسية لبنانية معقّدة، وفي ظل شغور رئاسي، ووسط انفلاش مسلحي «داعش» من العراق الى سوريا وجرود عرسال، وقد يكون الى غيرها من مناطق لبنان.
أخطأ حزب الله في دخول سوريا. نعم. ومنذ ان تدخل في سوريا لم يوفّر معارضوه كلمة الا قالوها. لكن اين اخطأ المسيحيون؟ وأين اخطأ السنة؟ وأين اخطأ قائد الجيش في معركة عرسال؟
في ظل الشغور الرئاسي، تحوّل مجلس الوزراء بديلاً عن رئيس الجمهورية. لم يتعب الوزير جبران باسيل في معركة كما فعل في سعيه الى اثبات توقيع جميع الوزراء، والمسيحيين منهم تحديداً، المراسيم الحكومية. وقامت قيامة رئيس تكتل التغيير والاصلاح العماد ميشال عون كي يصبح للمسيحيين حق التوقيع على المراسيم. ولم يوفر حليف باسيل، الوزير الياس ابو صعب، مناسبة الا تحدث فيها عن حق المسيحيين في تثبيت اجراء في الادارة اللبنانية. وشن الوزير سجعان قزي حربا على الحكومة لتصحيح كلمة في البيان الوزاري والحصول على حصة في تعيينات العمداء في الجامعة اللبنانية حفاظاً على الدور المسيحي.
كيف يقبل الجيش التفاوض مع الجراح والرافعي وهما حملا عليه ولا يزالان؟
الاثنين الفائت، وفيما كان مجلس الوزراء مجتمعاً في حضور الوزراء الموارنة والمسيحيين، ارسل رئيس الحكومة، الذي اثاره عقد قهوجي مؤتمراً صحافياً هو الاول من نوعه، يوم الاحد، عضو كتلة المستقبل النيابية جمال الجراح والشيخ سالم الرافعي الى قيادة الجيش طالباً، بصفته رئيس السلطة السياسية التي يخضع لها الجيش، ان يتفاوض مع الوفد لوقف النار في عرسال.
المفارقة ان الوزراء المسيحيين المجتمعين في جلسة مجلس الوزراء تفرجوا على هذا الطلب، وإن عرفوا به مباشرة او عبر الاعلام. ووقفوا الى جانب سلام يعلن تضامن الحكومة مع الجيش، فيما لم يكلف وزير مسيحي نفسه عناء السؤال: لماذا يفاوض الجراح والرافعي قائد الجيش، وبأي صفة؟ ولأي هدف يقرر سلام، وخلفه الحريري ومستشاره نادر الحريري عبر احد المقربين من الاخير، القيام بوساطة لوقف النار ومصير العسكريين مجهول، وما هي بنود التفاوض وخلفياتها؟
اين كان الوزراء المسيحيون من هذه الوساطة، وهل جرت بقرار جانبي من سلام بصفته بديلاً عن رئيس الجمهورية، ام مكلفاً من مجلس الوزراء مجتمعاً؟ وهل سكت الوزراء المسيحيون لاسباب تتعلق فقط برئاسة الجمهورية واحتمال وصول قهوجي اليها، فتركوا العسكريين والضباط فريسة مسلحي «داعش»، الذين يشن باسيل وابو صعب وقزي كل يوم هجوماً عليهم.
بعد وساطة الجراح، عقد سلام اجتماعاً وزارياً، للاسف، سني الطابع، في حضور الوزيرين اشرف ريفي ونهاد المشنوق وهيئة العلماء المسلمين. والسؤال: لماذا لم يحضر الاجتماع الوزراء المسيحيون والشيعة ايضاً، الا إذا رأى سلام ان الوزراء الشيعة هم اصل المشكلة لانهم السبب في ذهاب حزب الله الى سوريا، وحتى لا يتحول الاجتماع سببا للانفجار السني ــــ الشيعي. وهل سنشهد من الآن فصاعداً اجتماعات وزارية طائفية، فيجتمع الوزراء المسيحيون اذا وقع اشكال امني في كسروان او جبيل او بعبدا؟ وكيف يبرر المسيحيون ان زملاءهم السنة فحسب هم الذين يفاوضون في قضية خطرة كقضية عرسال، فيما مصير قضية كهذه يهدد البلد برمته؟
غاب البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي عن السمع، ولم يغط الجيش من المسيحيين سوى عدد محدود من الشخصيات المسيحية الواعية، ورئيس حزب القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع الذي اتصل، في موقف لافت، بقهوجي متضامناً. في غياب رئيس الجمهورية المسيحي تُرك الجيش، ولم يحظ قهوجي بغطاء كان يفترض ان يؤمّنه الرئيس المسيحي كما كانت الحال في معارك الضنية ونهر البارد وعبرا. طغت الرئاسيات على الساحة المسيحية فغرقت في خطأ تاريخي سيظل يحتسب لها، حين لا تقف موقفاً فعلياً وحسياً مع الجيش في مواجهة «داعش»، فيما هي تتباكى على واقع مسيحيي الموصل.
اين أخطأ السنة؟
تعاملت القيادات السنية مع وضع عرسال كأنها حالة سنية فحسب، وتعاملت مع الجيش في اطار حملة دعم لفظية واسعة، كلما كبر الدعم الكلامي والمالي، تلقى الجيش ضربة جديدة. مشكلة تعاطي رئيس الحكومة والحريري وتيار المستقبل انهم تناسوا ان عرسال مشكلة مزمنة، عمرها من عمر الازمة السورية، وليست طارئة على الحدث السياسي. اين كان تيار المستقبل والقيادات السنية من وضع عرسال المتفاقم منذ اكثر من عامين، وكيف تحولت هذه البلدة الى خزان للمعارضة السورية اولا، ومن ثم لـ «داعش» و«النصرة». وكيف اُهمل واقع عرسال المعيشي والاجتماعي والاقتصادي، لمصلحة تفاقم الحالة الاسلامية التي قتلت قبل عامين النقيب بيار بشعلاني والرقيب اول ابرهيم زهرمان، ولا تزال تمعن في قتل وجرح العسكريين. لماذا لم تتحرك قيادة المستقبل منذ ان رفض الجيش دك عرسال بالمدفعية قبل عامين، وآثر تحييد المدنيين، حتى تتحول البلدة إلى خط تماس دائم ومتفجر.
اخطأ رئيس الحكومة حين تحول من ابن بيت سياسي عريق الى زعيم للسنة فحسب، ولاهالي عرسال، تماماً كما حاول رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ان يفعل حين زار مقر قيادة الجيش اثر حادثة عرسال الماضية تحت عنوان التضامن مع الجيش، فاذا به يقف مع «الذين يعدون انفسهم مستهدفين»، ويطالب بالتحقيق في الحادثة. واخطأ حين فاوض، بالواسطة او مباشرة، المسلحين، في وقت كان يعلن فيه ان الحكومة لا تفاوض الارهاب، وأخطأ حين تخلى عن الجيش من اجل ان يمارس فحسب دور رأس السلطة التنفيذية في غياب رئيس الجمهورية. وأخطأ الحريري انه صور للبنانيين دعما سعوديا بقيمة مليار دولار تمر عبره وتوظف في السياسة المحلية،. في وقت لا تزال فيه الهبة السعودية عبر فرنسا معلقة.
اخطأ تيار المستقبل ورئيسه حين اقنع اللبنانيين بانه يقف الى جانب الجيش في خطاب لم يوفر فيه الهجوم على حزب الله، فيما اربعة من نوابه: جمال الجراح ومعين المرعبي وخالد ضاهر ومحمد كبارة، يهاجمون الجيش ليل نهار، ويتبنون بكل صراحة خطاب المسلحين ومطالبهم. ولعله نجح فقط حين صدقه كثيرون.
اين اخطأ قائد الجيش؟
فاجأ الجيش مهاجميه بسرعة مبادرته والتقاط انفاسه، فاستوعبت قطعه العسكرية الضربة الاولى وعنصر المباغتة. يسجل للضباط والعسكريين منذ اللحظة الاولى وقوفهم بشجاعة ضد الهجومات الارهابية، واستعادة مراكزهم ومواقعهم الامامية.
اعاد الجيش الوضع الميداني الى ما كان عليه قبل يوم السبت 2 آب، لكن مع سقوط 17 شهيدا وعشرات الجرحى و 19 مفقودا.
الاخطر في كل ذلك هو موضوع الاسرى. كيف يمكن للجيش ان يقبل التفاوض اصلاً مع الجراح والرافعي وهما حملا عليه ولا يزالان، وتصريح الجراح الاخير امس يثبت ذلك، وهل هما موفدان حكوميان ام موفدا سلام والحريري ام المسلحين؟ لقد اخطأ الجيش بقبول وقف للنار او هدنة او اي تسمية اخرى بضمانة العلماء المسلمين، ليكتشف لاحقا ان المسلحين خرجوا برفقة العسكريين، وكلام اعضاء وفد الهيئة قبل انتهاء اول اربع وعشرين ساعة حمل ما يكفي من الرسائل المبطنة التي كانت تنذر بذلك. فهل كان مقصودا ان يوقع اي من المفاوضين السياسيين او الحكومة بالجملة والمفرق، الجيش في الفخ؟
لم يخطىء قائد الجيش في انه لم يرد ان تكون عرسال نهر بارد جديداً، لكن اخطأ حين تجاوب مع وسطاء من اجل هدنة انسانية تحولت بفعل تواطؤ لا يزال مجهول المعالم مصيدة للعسكريين الذين تحولو، كما كانت حال مخطوفي اعزاز وراهبات معلولا والمطرانين المخطوفين، حلقة في مسلسل ارهاب لا ينتهي.
ومن سيقود من الان فصاعدا ملف التفاوض لاطلاق الاسرى: الوسطاء انفسهم، ام هيئة العلماء المسلمين بتكليف من سلام والحريري؟ وهل يمكن للقوى السياسية ان ترتد على قائد الجيش بسبب اخطاء ارتكبتها السلطة السياسية نفسها، لا سيما ان قائد الجيش قال ان المعركة لن تتوقف الا مع اطلاق الاسرى، لكن الاسرى صاروا في عهدة المسلحين الذين يريدون مع من وراءهم ابتزاز لبنان والجيش.
لقد كانت امام قائد الجيش خيارات اخرى يلتف فيها على من يريد احراق الجيش، لكنه تعمّد عدم اتخاذها، وصدّق الوعود التي أعطيت له. وهي وعود يبدو ان القصد منها التمييع.
هناك أسئلة كثيرة مطروحة على قائد الجيش، والمطلوب أجوبة واضحة من دون وسطاء.