Site icon IMLebanon

أيها القتلة.. ما زلنا على قيد الحياة

إلى القربانتين

محمود جمال الدين

وعبد الكريم حدرج

لست متشائماً، فأنا ما زلت على قيد الحياة.

قبل أن تتلو المذيعة فقرات من مقالتي «داعش في لبنان؟ ليت لا»، وصفت نصي بأنه متشائم. تريثت قليلاً، ثم علّقت: كيف أكون متشائماً، وأنا ما زلت حياً. على المستوى الشخصي، أنا محظوظ حتى الآن. لم أُقتل بعد. لم أكن في الموصل، ولا كنت في إمارة «داعش»، ولا أصابتني شظايا سيارة يقودها انتحاري على أرصفة «الضاحية».

تابعت سيري. السيارة التي تقلني إلى «السفير» كل صباح، تعرف الطرق الالتفافية الآمنة حتى الآن. تعرف كيف تحتال على المناطق المستهدفة. نحاذر المغامرة. تفضّل الطرقات «المسيحية». (تسمية لها مدلولها الأمني، لا الطائفي).

تسرع عند خطوط التماس الشيعية السنية. تستعيذ بالملائكة عند بلوغها مراكز حكومية أو مذهبية أو دينية حساسة. بذكاء وفطرة، أصل إلى مكتبي مسروراً، فأنا ما زلت على قيد الحياة… فعل زمط هنا، له معناه الفعلي.

أعدت قراءة مقالتي، فقلت لنفسي، هذا نص واقعي وموضوعي جداً، ويحتمل التفاؤل، بصيغة التمني: «ليت لا». «ليت»، نافذة على المستقبل، و«لا»، رفض لما وقع في الماضي وما يحدث في الحاضر، وهذا وحده كان لإبقاء الأمل بصيصاً. وان لم يكن ذلك كذلك، فالاستسلام فضيلة، والهرب واجب، والانتحار.. احتمال جميل.

لا مبالغة أبداً. حجم التفاؤل البائس هذا، هو من هول ورعب ما يحدث. ومن استضافة القتل واعتباره مهنة «إلهية» مباركة ومجزية.

ولكي أقنع نفسي بصوابية موقفي الصلب في أرض هشة ومتداعية، لذت بمرجعية العذاب: «أنا أتألم، إذًا أنا ما زلت حياً. لم أصبح تمساحاً سياسياً أو طائفياً أو دينياً. عذاباتنا، أرضية تؤكد وجودنا: «أنا أتعذب، إذًا أنا موجود»، وما عدا ذلك، ينتمي إلى فقه التنظير ورطانة السياسة وسفلة المذاهب… ما عدا ذلك، تفلسف غبي وتحليل منافق واصطفاف مرعب… لا حقيقة خارج عذاباتنا المزمنة.

ولأني كذلك، شديد الصلة بالحياة على حافة الموت، لم تقتلعني الإيمانات والعقائد والنظريات والرغبات والأهواء والحتميات والتبريرات والإحداثيات السياسية للمعارك التي تتصدر رئة الأمة من المحيط إلى الخليج. واقعي شديد الوضوح أتذوق مراراته وأكتوي بدمائه. واقعي يفصح عن حقيقة لا يأتيها شك من أي وجه أو جهة، حقيقة تقول: إننا نقتل.

أكره عفن اليقينيات وأطمئن إلى صلابة معرفتي بالآلام التي تتحسسها شعوب تنوء بثقل تكرارها وإدمانها على مكابدتنا… إنني (إننا) ممتلئ بما يحدث، وأرى أمامي كل يوم قادة يقودون قطعانهم إلى مقصلة الانتصارات المدمرة للإنسان والوطن والبصيص الأخير من الأحلام… وحده، الإنساني، هو يقيني وسندي. وحده الإنسان العاري من القوة والانتماء يعنيني، لأنه يتعرض لعقوبة تصيبه، بسبب براءته فقط. فهذه بلاد وهذا زمن يقتتل فيه المجرمون على مدار الحياة، والقتلى أبرياء… ما تحياه هذه الأمة وما تعانيه هذه الشعوب، هو من جنس التوحش المدعّم دينياً ومذهبياً ونفطياً.

لست متشائماً. على الأقل، لا زلت حياً وإنساناً. لم يقتلني التنين ولم أتَوَحْشَنْ بعد. ألوذ بإنسانيتي وإنسانية الأبرياء، وأعتصم بالحياة وحظ النجاة، ولقد أفلحت.

أعرف مواطن قدمي. لست مغترباً عن أمة أحببتها. عن شعب أجد أنفاسي بين تلونات روحه وثقافاته. أنا عشت في هذه البلاد، وانتميت إليها بوعي معرفي، لا وراثة فيه. أنا فيها منذ سبعين عاماً. ولست وحيداً في انتمائي هذا، ولا سيرتي فريدة. هي سيرة الملايين التي حلمت وأخفقت ولم تمت بعد. فضيلتها أنها خرجت من «الفسطاطين» القاتلين. ولا مكان لها، غير الضفاف المهملة والمنسية. ضفاف النجاة بالصدفة.

لست من قارة أخرى، حيث للحياة مقام القداسة، وللإنسان مقام الكرامة. لست من بلاد يتقدم فيها الإنساني على كل معتقد ودين ومصلحة وسياسة. أنا، أو نحن، إن شئت، من بلاد مخضّبة باللعنات، وذلك منذ مئة عام بالتمام.

هذه بلاد تكرّس فيها القتل قانونا. القتل، هو السياسة عندنا. أقصد القتل المادي المقترن بالقتل المعنوي. عجيب، فقدنا كل ما في تراثنا من حق وخير وجمال وإنسانية، ولم نستعد إلا تراث القتل. كل هذا الدمار السياسي والوطني والقومي والإنساني عندنا، هو الإبن الشرعي لأحزاب «قايين»… كل هذا الخراب وهذا العبث، هو نتاج قرن من القتل… كم حربا اقتاتت من أجسادنا وأرواحنا وبلادنا. فرنسا دشنت انتدابها بالمجازر. قتلت أكثر من جمال باشا السفاح. غورو بزه في ميسلون ودمشق. دو مارتيل أكثر شناعة. قتلتنا فرنسا بالرشاشات والمدافع والفتن. أرض السواد على يديها، لم تكن العراق التي استوطنها التوحش البريطاني.

الغرب «الحضاري»، «المتمدن»، «العلماني»، «الإنساني»، «الحقوقي»، تعامل مع نخبنا السياسية كخدم مطيعين، ومع شعوبنا كأغنام ونعاج، ومع إنساننا المتمرد والحر والجميل كعصابات. حكمنا الغرب بطبقة، من بضاعة رخيصة إنسانيا، هي من سلالة الإقطاع واللصوصية وأصحاب الذكاء في ارتكاب السياسات المنحطة.

الغرب شريك مباشر في قتلنا. ولكننا لم نمت. وهذه مأساتنا. منذ قرن، فتك «الحلم الصهيوني المستحيل» بفلسطين. كم عنفاً؟ كم قتلا؟ كما دما؟ كم… إلى أن قتلت فلسطين كلها، ولكنها لم تمت. وهذه فجيعتنا.

الطامة الكبرى، أن من تولى إنقاذنا المفترض من الغرب وإسرائيل، أغرقنا في القتل. أنظمة عسكرية اشرأبت باسم فلسطين ومحاربة الاستعمار، تراخت وجبنت وفشلت وانكسرت في معاركها الدونكيشوتية ضد العدوين، ولم تفز إلا بحربها على شعوبها… إننا ضحايا أنظمتنا الاستبدادية. لَكَم قتلتنا، وسجنتنا ومنعتنا وقمعتنا وطوعتنا وغيبتنا ونفتنا، حتى استتبت لها سلطة بلا شعب… أرقام الذين قتلتهم أنظمة الردة علينا، أفظع من الأرقام التي تكبدناها في مقاتلة إسرائيل. (يا ويلهم!)

حروبنا الأهلية، تفرغنا لها، بعد انسداد الأفق. أنظمة الاستبداد، ولادة الحروب الأهلية…

هذا هو المدى العربي أمامنا، فلنتأمله. اليمن يقتات القات والقتل. العراق، كم حجّاجّا فيه. كم رأساً قد أينع وحان قطافه؟ كم قطف منه حتى الآن؟ منذ حروب صدام ضد إيران والكويت، وضد شعبه؟ كم عراقياً قتل إبان الحصار؟ مدام مادلين أولبرايت غسلت ضميرها عندما سئلت عن عذابات وموت أطفال وأمهات العراق. قالت: إن الفوز يستحق هذه التضحيات (التضحيات بنا). قَتْلٌ ثم قَتْلٌ فوق قتل إلى مدى من القتل. ثم حصل اجتياح العراق. كانت دموع العراق لم تجف بعد، عندما اندلعت حرب المذاهب والاثنيات، والآتي أعظم. أي جنون هذا السفك.

ما لنا وللبنان؟ خمسة عشر عاماً من القتل المتبادل والمجازر المتقابلة والعنف اللامبالي، كانت كافية لبلوغ حالة الكفاف والتعب من القتل. أكثرية القتلى، أبرياء، مئة ألف قتيل، ستون ألف جريح وإعاقات دائمة، عشرون ألف مخطوف، ثمانمئة ألف مهجر… رجينا حنقير في كتابها «ألقيت السلاح»، أجادت في وصف أحزان الأمهات ولوعة المساجين وصمت القتلة عن المقتولين، وخيانات الأخوة وتصفية الرفاق.

الطائف ولد من كفاف القتل. ما بعد الطائف، صار القتل بالتقسيط، صار الاغتيال، ذروة السياسة، أما اليوم، فالتفجيرات طريق لبنان إلى الخوف ثم الخوف.

في لبنان، مرجع تكاد تصدأ فيه أرواحنا. صرنا نعلل وجودنا بمقولة، لا يقتنع بها أهل القتلى، بأن الحياة أقوى من الموت… «مللا حياة!»، أن تعيش متأهباً للفقدان والخسارة والألم.

ما لنا ولسوريا؟ مطحنة الأجساد ومقصلة الأرواح. لفرانكشتين دولة، ولـ«داعش» دولة، ولشياطين النفط دولة ولآلهة الدين دويلات، وكلهم في القتل سواء، والقتلى، جلهم من الأبرياء… مشاهد اللجوء السوري، لا طاقة للإنسان ان يتحملها. أي كهولة أصابت الأطفال السوريين وهم يبحثون عن لقمة أو إغاثة أو لعبة رثة؟

الجزائر، مئة ألف قتيل، هي حصيلة مقتلة كبرى على مدى عشر سنوات بين نظام مستبد وبين إسلام سياسي أشد عنفاً وتوحشاً وبربرية وتفنناً في التعذيب والقتل. تعذيب وقتل الأبرياء… مليون شهيد من أجل الحرية، في مواجهة الاستعمار الفرنسي، لم يتذوقوا بعدها طعم الحرية. انتقل الجزائريون من عنف الاستعمار إلى عنف الاستبداد، و«ظلم ذوي القربى»، عسكر متعطش للسلطة والمال والنفوذ، وشعب استنَّ من الآية سيفا لينحر به من لا يشبهه. أنت لست مثلي، إذًا، أنت عدو لي.

ليبيا؟ تحتاج إلى دانتي، ونصوص عبد الرحمن منيف… الصومال، قتال بلا رحمة. السودان، مجزرة مزمنة.

ماذا بعد؟

“بعدنا عايشين”، بكل المرارة وبكل الأهوال وبشتى الانتظارات المشؤومة. “داعش” أمامنا. “النصرة” قربنا. “عزام” تتجول شياطينه على ضفاف أجسادنا. “الأئمة” مستنفرون دعماً. الصلوات، لم تعد مصوبة إلى سماء الروح وقبة الله، بل إلى “الأخمص” و”حد السيف” وطعنة الأعناق. صار “الله أكبر” مرعباً. (يا للعار!)

ماذا بعد؟

الاستبداد ليس خلفنا، وحظنا اليوم أن نختار بين “داعش” القتل وأنظمة الاستبداد القاتلة… لا خيارات أخرى… العرب مشغولون بتوظيف القتل، علهم يعدلون في موازين القوى الشريرة. الغرب يتفرَّج. وإسرائيل، لا أحد يرشقها بوردة.

ماذا بعد؟

“بعدنا عايشين” قيمة كبرى نتمسك بها. إننا نتألم كثيراً، وهذه فضيلة تدل على أن إنسانيتنا تنبض في عروقنا. واننا نستطيع ان نقول: اليوم قتل، وغداً خمر. نستطيع أن نعلن ولاءنا للحياة والإنسان والشعر والفن والثقافة والعيش والأمل والحلم، ولو كان ذلك من المستحيلات… ان حياتنا مستحيلة، لكن بصيص عمرنا لا يزال متوقداً.

نحن الأكثرية… ونعيش على الحافة… بأثقال الأمل، ولو كاذباً؟

فكيف أكون متشائماً يا صديقتي المذيعة، ومشهود لك ذكاؤك؟ سؤالي لك: متى سيتوقف القتل في هذه الأمة؟

وحده “رب العالمين” قادر على الإجابة، وهو حتى الآن، لم يعطنا إشارة.