ثمة في عودة الرئيس سعد الحريري ما يستثير ظاهرة فقدان شارع او طائفة او فريق لزعيمه التي عرفتها بالتناوب منذ ما بعد عصر الطائف قوى ناهضت الوصاية السورية ومن ثم واقع ما خلّفته بعد الانسحاب السوري من لبنان. وعلى رغم الاختلاف في ظروف غياب الرئيس الحريري او تغييبه، وتلك التي صاحبت نفي العماد ميشال عون الى فرنسا وسجن الدكتور سمير جعجع، وهما النموذجان الأقرب والاحدث في حجب زعماء قسراً أو تنكيلا عن شوارعهم، ترانا أمام ظاهرة تتكرر تداعياتها لجهة استحالة فصل حالة الزعامة عن حالة الشارع او الطائفة متى اريد لواقع سياسي ان يقوم على هذا الفصل.
لا نسوق ذلك من منطلق تقديس الزعامات الشخصية التي قد تشكل غالبا مظهرا مرضيا من أمراض التركيبة اللبنانية وتمنع تطور الحياة الحزبية الديموقراطية، بل من منطلق شديد الواقعية لا مكان فيه بعد للحلم بتغيير جذري قريب في المجتمع اللبناني. ولكن تجربة غياب الحريري او اقصائه قسرا، ومن ثم ما أحدثته عودته من أصداء شكلت بعد تجربتي نفي عون وسجن جعجع إضافة نوعية وتلوينا خاصا عن التجربتين. ذلك ان مقارنة سريعة بين التجارب الثلاث، وبمعزل عن مواقع اصحاب كل منها، تظهر مفارقة جوهرية في متغيرات طرأت على “شوارع” الطوائف والمذاهب في السنوات الاخيرة. اذ اتسمت عودة كل من عون وجعجع الى “الشارع المسيحي” بصخب الحاجة الماسة الملحة الى “قوة الزعامة” بمفهوم الاضطهاد الموجب لاستعادة مظهر الزعامة القوية سعيا الى تصويب ميزان قوى مختل. اما عودة الحريري فأثارت دوي الحدث على وقع الحاجة الاشد من ملحة وعاجلة للزعامة المعتدلة التي تحمل قوتها في اعادة الإمساك بـ”شارع سني” متوقد بالعصبية في مواجهة “شارع شيعي” مشابه لعصبيته. ترانا اذاً امام ظروف تملي على الزعامات صوغ أدوارها وتطويرها وتكييف شوارعها مع موجبات اللحظة الحرجة اكثر من ذلك المفهوم الكلاسيكي المبسط الذي تجاوزه واقع لبنان في “نبرة القوة” لئلا ينفلت زمام الشوارع في مواجهة بعضها البعض وتقع الكارثة.
ولعل افضل ما اظهره الحريري في الايام الاولى من عودته الى “الارض الساخنة” واقعية تجاوزت التهابات لحظة عرسال وتداعياتها في كل الاتجاهات. فلم يرسم أحلاما وردية سهلة أمام “وظيفة العودة” ولو انها شكلت بتوقيتها الرسالة الاشد وقعاً في منزلق كاد ليكون قاتلا لولا استدراكات كبيرة داخليا وخارجيا كانت عودة الحريري بكل ما حملته من دلالات وأبعاد معروفة وسرية عنوانها العريض، وعساها تشكل مفتاحا لانهيار السدود والعقول المتحجرة التي تأسر الازمة من رأسها ونزولاً .