عدوان اسرائيلي على غزة، وحروب أهلية مستعرة في ثلاثة بلدان، العراق وسوريا وليبيا. بالتوازي، ثمة ثلاثة بلدان في عين الاعصار، مصر والأردن ولبنان، وهي معنية مباشرة بهذه الحروب الثلاث، ورابعها العدوان على غزة، لكنها بلدان تحافظ على استقرار نسبي، متفاوت في ما بينها، لكنه يظهر بمجرد مقارنته بأوضاع العراق وسوريا وليبيا.
هل ثمّة ما تبدّل في هذا الاعتبار العام، بالنسبة للبنان، بعد اشتعال الوضع في عرسال؟ نعم ولا. نعم، من جهة أن التطور الأمني الخطير، المتمثل بالاستيلاء على البلدة، والاعتداء المقيت على القوى الأمنية والجيش، وانفجار الأمور في أثر ذلك، إنما يدخلنا في إيقاع جديد للحياة السياسية والأمنية اللبنانية، وتحديداً مع تمادي أمد الفراغ الرئاسي الذي يستهلك الشهر وراء الشهر ويلامس انتهاء الولاية الممددة للمجلس النيابي، في ظلّ اتساع دائرة الاستنزاف التي يكابدها «حزب الله» في سوريا، والمأساة اليومية لعائلات لبنانية تشيّع فلذات أكبادها كل يوم.
صحيح أن المقارنة شائعة الآن، تلك التي تعقد بين سياق معركة نهر البارد وبين سياق معركة عرسال. لكن عنصر التشابه في «خشبة المسرح» والأدوار والشخصيات، لا يلغي عناصر اختلاف أساسية. «فتح الإسلام» مشكلة موضعية، أما «داعش والنصرة» فمشكلة متمددة في العراق وسوريا، وهي تطرح نفسها، بهذا التصادم الدامي وبمنطق «كسر الحدود» على اللبنانيين، بعد أن طرحت نفسها في العمليات الانتحارية طوال العام المنصرم.
في «نهر البارد» كان «حزب الله» مطلق شعار «الخط الأحمر»، أما اليوم، فالإجماع واضح على دعم العيش في مواجهة المسلحين المتطرّفين. هذا الإجماع اليوم شعبي قدر ما هو سياسيّ لكن له قوانينه للحفاظ عليه وتثميره، إمداداً للاستقرار، ودون ذلك، وقوعه في الأسر.
الإجماع الحاصل اليوم مردّه الى أن كل مجموعة لبنانية تستشعر الخطر، خطر منطق «كسر الحدود» عموماً، ومنطق الإمارات الظلامية خصوصاً. لكن ما يحصل هو تشكيك كل مجموعة بصدقية انخراط المجموعة الأخرى في هذا الإجماع. هذا التشكيك قد يتحوّل الى غلوّ لدى فئة، فتعتبر أن لا فعالية لصخبها ما لم تتجاوز مشكلتها مع «داعش والنصرة» إلى ما فيه التعريض بكرامة العرساليين وأمنهم وأرزاقهم. أو، في المقلب الآخر، سيجرّنا التشكيك في هذا الإجماع إلى متابعة السجال المتواصل منذ مشاركة «حزب الله» في الحرب السورية، بين من يراها مشاركة أبعدت من يوصفون بـ»التكفيريين»، وبين من يراها المسؤولة الأساسية عن تمكينهم بهذا الشكل الصفيق من تجاوز الحدود، والاعتداء على الجيش والقوى الأمنية والاستيلاء على بلدة عزيزة من لبنان. لكن، إلى حد كبير، هذا السجال له وقته الطبيعي، الذي ينبغي ألا يستهلك التركيز على الإجماع المحقق الآن. ثمة إجماع على دعم الجيش في مواجهة هذه المجموعات، ودعم ما يقوم به في المنطقة المعنية. هذا الإجماع كل طرف ينخرط فيه، في هذه اللحظة لسبب مختلف عن الآخر، لكن الإجماع بحد ذاته يصاب بأذى خطير إن دخلنا في لعبة التشكيك المتبادل، ومسابقة الغلو، والغمز المذهبي.
للبنانيين أسباب وجيهة كي يطوروا موقفهم الاجماعي في هذه القضية، ولكل منهم إغراءات وإغواءات كثيرة لحرف هذا الإجماع، أو توظيفه بشكل يعيق البناء عليه. اللبنانيون، كالأردنيين والمصريين، يرون حروباً أهلية حولهم، ومصلحتهم الإجماع على تجنّب كأسها، والتجنّب لا يكون بفحيح الأفاعي الطاعنة في ما هو محقق من إجماع عاطفي على دعم الجيش في عرسال، فهذا الدعم معيار صدقيته الأساسية تكون في التفتيش الصحيح عن المصلحة المباشرة لأبناء بلدنا من العسكريين ولأبناء بلدة عرسال في الحياة، بعيداً عن الموت المحتوم، وبعيداً عن الفتنة المذهبية التي تجلب الظلاميين، والظلاميون الذين يعودون فيسعّرون الفتنة المذهبية.
الإجماع النادر هذا هو لحظة لا يجوز التفريط بها، أو.. «تفخيخها».