حيرة الاحتلال وجريمة الشاطئ تسرِّعان الوساطة المصرية «المعدلة»
إسرائيل تقتل.. وتهدد بغزو.. وتنتظر هدنة
حلمي موسى
وفي اليوم التاسع لحرب «الجرف الصامد» وجدت إسرائيل نفسها وجهاً لوجه أمام نفسها، تقتل أطفالاً يلهون على الشاطئ على مرأى العالم وسمعه، مستخدمة أشد الأسلحة فتكاً وأكثرها تقنية.
وفي اليوم التاسع لهذه الحرب تجد نفسها بعد يوم أكثر من أيام «عمود السحاب» قبل أقل من عامين، التي انتهت خلال ثمانية أيام، في نقطة البداية، عاجزة عن السير، لا في اتجاه وقف إطلاق نار مضمون ولا معركة برية معروفة النتائج. وفشلت مساعي إسرائيل الجديدة بالضغط على المقاومة عبر منهج ترحيل السكان جماعياً من أحياء ومناطق إلى أماكن أخرى، كما فشلت في إضعاف حدة نيران المقاومة، ووصلت الصواريخ إلى تل أبيب وديمونا.
وقد أقدمت القوات الإسرائيلية على اغتيال خمسة أطفال من عائلة بكر على شاطئ مدينة غزة، وطفل سادس في خان يونس من عائلة الأسطل، لترفع عديد الشهداء من الأطفال إلى حوالي خمسين ليشكلوا ربع شهداء غزة في هذه الحرب، الذين بلغ عددهم أكثر من 220 شهيداً.
وأمام أنظار مراسلي الصحافة الأجنبية المقيمين في فندق قريب على الشاطئ، أطلقت البحرية الإسرائيلية على الأطفال الخمسة قذيفتين على الأقل، إحداهما بهدف التحقق من القتل. واعترف عسكريون إسرائيليون بأن قتل الأطفال على الشاطئ يعادل أثره في نظر العالم أثر مجزرة قانا في حرب لبنان الثانية. وربما أن هذا كان بين الأسباب المركزية التي حدت بالحكومة الإسرائيلية إلى الاستجابة فوراً لمطلب الأمم المتحدة بعقد هدنة إنسانية لإيصال المعونات للسكان تبدأ من الصباح وتنتهي ظهر اليوم.
وقد ادَّعت إسرائيل أنها تحقق في كل أحداث استهداف للمدنيين الفلسطينيين، لقطع الطريق على أية لجان تحقيق دولية مستقبلا. ومع ذلك أقرت لجنة مكلفة من الجيش الإسرائيلي أن ما لا يقل عن نصف عدد الشهداء في غزة هم من «غير الضالعين» في المعارك، لكن ذلك لا يغير من المنطق الذي يحكم السلوك الإسرائيلي الذي يواصل التهديد بشن عملية عسكرية برية وشاملة في كل قطاع غزة.
إذ قدَّم ضابط إسرائيلي رفيع المستوى إيجازاً لمراسلي وسائل الإعلام الأجنبية في تل أبيب يشدد على جاهزية الجيش لتنفيذ عملية برية واسعة في القطاع، وصولاً إلى احتلاله كاملاً. وأكد هذا الضابط، في نوع من الرسالة التهديدية، لحركة «حماس» عبر الصحافة الأجنبية، أن العملية البرية ليست صعبة على الجيش الإسرائيلي، وهي أيضاً ليست مكلفة. والأهم أنه ادَّعى أن بالوسع تحقيقها خلال وقت قصير نسبياً، يمتد من بضعة أيام إلى بضعة أسابيع.
غير أن الانطباع السائد في إسرائيل هو أن الجيش ليس مستعداً الآن لعملية برية واسعة في غزة، وأن الحديث عن إعادة احتلال القطاع بأسره لا يخرج عن كونه تهديداً، فالقيادة السياسية، بغالبيتها، وكذلك غالبية الجمهور الإسرائيلي لا تريد هذه المعركة، ليس خشية على غزة وإنما جراء الإدراك لأثمانها الباهظة، سياسياً واقتصادياً وبشرياً. كما أن قيادة الجيش الإسرائيلي لا تفكر حالياً إلا في عملية برية محدودة إذا اقتضت الضرورة، ولمعالجة مسألة الأنفاق خصوصاً القريبة من الحدود مع إسرائيل.
ولا يخرج التهديد بالمعركة البرية عن التهديد الأوسع الذي توجهه إسرائيل لسكان القطاع لإخلاء بيوتهم. وبعد أن كان المنهج المتبع هو سياسة «نقر السطح» لإجبار أهل بيت بعينه على إخلائه تمهيداً لتدميره، تحاول إسرائيل الإيحاء بالانتقال إلى عقيدة «الضاحية» من خلال القول بتحويل «الشجاعية إلى الضاحية». وقد وزعت منشورات تطالب سكان كل من الشجاعية والزيتون، وهما من أكبر أحياء مدينة غزة، إلى ترك بيوتهم والانتقال إلى وسط المدينة تمهيداً لدخول الجيش الإسرائيلي إليها. ورغم مرور يومين على هذا التهديد فإن الغالبية الساحقة من أهالي الحيين بقيت في بيوتها، ما أفشل التهديد الإسرائيلي. ومع ذلك هناك من يعتقد أن صمود أهالي الشجاعية والزيتون، وقبلها أحياء في مناطق رفح وجباليا في بيوتها، وفر لإسرائيل ذريعة لادَّعاء أن هذا الفشل أحبط العملية البرية.
ومع ذلك قرر المجلس الوزاري المصغر يوم أمس السماح بتجنيد 8 آلاف جندي احتياط آخر. ويشير معظم المراقبين العسكريين إلى أن هذه الحشود حول غزة لا تعني أن العملية البرية ممكنة خلال يومين أو ثلاثة أيام. ويوضحون أن الجيش الإسرائيلي حالياً ليس في وضع كالذي كان عليه عند شن حرب «عمود السحاب»، حينما كانت مخازنه مملوءة إثر توصيات «حرب لبنان الثانية» وكان جنوده مدربين. واليوم لأسباب اقتصادية فإن المخازن غير ممتلئة، والجنود أقل تدريباً، لذلك فإن الحماس للعملية البرية أقل لدى القيادات منه لدى الجنود الشبان.
وهكذا، وبسبب ضعف الخيارات الميدانية، أو مخاطر تكلفتها السياسية والاقتصادية، تراهن رئاسة الحكومة وقيادة الجيش الإسرائيلي على التحركات الدولية من أجل إبرام اتفاق لوقف إطلاق نار. ورغم الإيحاءات المتكررة هنا وهناك بأن مصر لم توفر البضاعة المطلوبة حتى الآن، لأنها تجاهلت عنصراً بالغ الأهمية في معادلة وقف إطلاق النار، فإن إسرائيل تصر على بقاء القناة المصرية قناة الوساطة الرئيسية. وحثت القاهرة على بذل المزيد من أجل التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بشكل أسرع.
وتقف الإدارة الأميركية خلف هذا الحث بشكل غير مباشر، فوزير الخارجية الأميركي جون كيري اتصل بوزير الخارجية الإسرائيلي أفيغدور ليبرمان، الذي يدعو صبح مساء لعملية برية في غزة، مبلغاً إياه، وفق الصحافة الإسرائيلية، بمعارضة واشنطن لمثل هذه العملية. وحث كيري إسرائيل على التواصل مع مصر بشكل أكبر لتسهيل التوصل إلى اتفاق. ويشارك في هذه الجهود أيضاً الرئيس الفلسطيني محمود عباس الذي تواجد في تركيا والقاهرة وتواصل مع قطر. وكانت قطر أيضاً موضع اتصال أميركي لحثها على دفع «حماس» نحو القبول بوقف إطلاق النار.
وحالياً، وبعد أن أعلنت «حماس» و«الجهاد الإسلامي» رسمياً رفضهما المبادرة المصرية، يتكاثر الحديث عن تفسير متجدد للمبادرة يقوم على أساس أن هدفها الأولي هو وقف إطلاق النار، وبعد ذلك تتاح للطرفين عرض مطالبهما لترسيخ هذا الاتفاق. وفي هذا السياق بدأت تتضح معالم مشروع أولي لدى «حماس» يتحدث عن هدنة لعشر سنوات في القطاع، على أساس الاتفاق على إزالة الحصار كلياً وفتح الميناء والمطار تحت رعاية دولية ومطالب أخرى.
ولكن من الواضح أن النقاش الآن يدور عن أمر أكثر أولية من ذلك، وهو يتعلق أساساً بإعادة فتح معبر رفح عبر عودة الإشراف الأوروبي عليه بالتعاون مع الرئاسة الفلسطينية. ويتواجد الآن في القاهرة، عدا مبعوث الرباعية الأوروبية طوني بلير، الذي يؤدي دوراً مركزياً في الجهود الحالية، كل من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ونائب رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» موسى أبو مرزوق ووفد إسرائيلي كبير يضم رئيس «الشاباك» يورام كوهين ورئيس القسم السياسي في وزارة الدفاع الجنرال عاموس جلعاد ومبعوث نتنياهو السياسي المحامي اسحق مولخو.
وتدير مصر مفاوضات غير مباشرة بين هذه الوفود بأمل تحريك الموقف نحو اتفاق أولي لوقف إطلاق النار وفتح معبر رفح، وحل مشكلة موظفي قطاع غزة، على أن تتبعه مفاوضات من أجل مناقشة القضايا الأخرى. ومعروف أن رئيس الحكومة الإسرائيلية أصبح يرفع مطلب «تجريد غزة من الصواريخ والأنفاق»، وبالمقابل تطرح «حماس» مسائل كعدم التدخل في الشأن الفلسطيني والممر الآمن إلى الضفة الغربية وفك الحصار وإنشاء مطار وميناء دولي.