قُضِيَ الأمر، وأسقطت صفة «الدولة» عن بعض الكيانات السياسية القائمة في المشرق العربي.
تجاوزت المخاطر على المستقبل في هذه الكيانات حدود «اللبننة» منذرة بحروب مفتوحة بين وعلى مكوّنات هذه الأرض التي كانت مهد التاريخ.. تواكبها عروض سخية من دول أجنبية «لاستضافة» المتحدرين من أعراق الشعوب التي بنت المدماك الأول في الحضارة الإنسانية، كتشهير إضافي بأهلهم الذين كانوا أهلهم قبل «الدول» وبعدها.
تلامس المخاطر الآن هوية الأرض وناسها، خصوصاً مع تعاظم عمليات الخروج الاضطراري بالخوف أو التهجير بالأمر، لا سيما بالنسبة لأقليات عرقية ودينية سابقة على الأديان السماوية جميعاً، أعطت أوطانها شرف الادِّعاء بأنها مهد الحضارة الإنسانية.
وعلى فظاعة النتائج التي انتهت إليها الحرب/ الحروب الأهلية/ العربية/ الدولية في لبنان فإنها لم تبدِّل في هويته ولا في كيانه، بل اقتصر التعديل على نظامه السياسي، وبعض التشوّه في المفاهيم والقيم بغض النظر عن قصور هذا التبديل عن مطامح أهله إلى الوحدة والديموقراطية والحكم السويّ.
في حين أن «التشليع» الذي تتعرض له «الدولة» في كل من سوريا والعراق (ولننسَ ليبيا مؤقتاً والسودان قبلها)، لا يهدد الكيان السياسي فحسب بل يمزق النسيج الاجتماعي للشعب ويبدّل في هويته فضلاً عن تسببه في طرد عناصر مكوّنة للدولة بأرضها وشعبها الذي كان شعبها وإن ظل ينظر إلى نفسه كمغدور به حين جرى تقسيمه وتشطيره وتوزيعه على دول عدة فضُربت وحدته واختلّ نسيجه وبالتالي توازنه النفسي وتسليمه بهويته السياسية (المقررة له) كحافظة لتاريخه في أرضه.
لقد بدأت دول العالم، لا سيما الكبرى منها، تتعامل مع هذه المنطقة وكأنها أرض مشاع لا «دول» حقيقية فيها بل مجموعات من البشر لا يربط بينها رابط من التاريخ والأرض ووحدة المصير..
بالمقابل فإن «الشعب» في هذه الدول ظل أشبه بمن يحمل جنسية قيد الدرس، فمواطنيته شرط ولائه للنظام، أما الجيش فقد اشترط فيه وعليه أن يكون جيش النظام وليس الدولة.. والمؤسسات التشريعية لا تمثل ـ فعلاً ـ الشعب الواحد الموحّد بل هي، في الغالب الأعمّ، تجميعات وتكوينات مركبة وفق الحاجة، تصطنع لتشويه إرادته وتعميق انقساماته التي تصبح شرطاً لاستمرار النظام ودوام الهيمنة على الحكم بذريعة تأمين الاستقرار كشرط لبناء الغد الأفضل.
لقد أُسقطت داعش على دولتين عربيتين كانت عاصمتاهما مركز القرار الكوني في بعض حقبات التاريخ الإنساني، ثم انتهى بهما الزمان إلى أن تنشأ في أرض كل منهما «دولة» لا تشبه تاريخها، مثقلة بذكريات المجد الذي كان كما بوقائع الحاضر الذي لا يفتح الباب للمستقبل المنشود والذي صار في خانة الأحلام: الوحدة التي تصنع الدولة القوية لشعب مؤهّل لصناعة الغد الأفضل.
.. وكان أن فُتح بطن التاريخ بالسيف، ومزقت الجغرافيا بطوابير الغزو الآتية من الجاهلية، فتعاظم تصدّع الدولتين المنهكتين بالشقاق الداخلي الذي أخرج إلى السطح كل المطموس من أسباب الخلاف الذي كان وما زال في أصله سياسياً ولكنه اتخذ عبر الصراع لبوساً طائفية ومذهبية وعرقية.. فتفكك الكيان أو كاد، وأصاب العطب الوحدة الوطنية فاجتاحتها الفتنة… وهكذا صار الطريق مفتوحاً أمام داعش، وبالأساس أمام «الدول» بالقيادة الأميركية لتعيد تقديم نفسها كضامنة للكيان وكذلك للأقليات، عرقية وطائفية، من فوق رأس النظام المنخرط في حرب أهلية مفتوحة، ممّا تسبّبت في عجزه عن صد اجتياحات داعش لمناطق شاسعة ولمدن كانت بين الأبهى من عواصم الحضارة الإنسانية وحركة الثورة الشعبية من أجل الوحدة والتقدم.
وكان بديهياً أن يدب الذعر في سائر دول المشرق العربي، خصوصاً وأن بعضها قد أقيم على بئر نفط وبعضها على خزان غاز، في حين أن داعش يزعم لنفسه أنه الأصل في «السلفية» التي تقوم عليها الدولة الأكبر والأخطر في المنطقة.
مع ذلك فليس في الأفق ما يؤمل بتوحيد الجهد لمواجهة الاجتياح الداعشي، وإن كان الجميع قد «بايع» واشنطن في إعداد الخطة وقيادة الهجوم المضاد، من الجو أو من البحر أو من البر، لا فرق، المهم حماية «النظام» لا البلاد ووحدة الشعب.
وليس جديداً في السياسة العربية أن تستعين الأنظمة بالخارج على الداخل، وأن تلجأ إلى المهيمن الأكبر لمواجهة الخطر الطارئ الزاحف الآن، تحت رايات داعش على المشرق العربي بهدف… هدايته وذلك بإعادته إلى الجاهلية بالسيف!
الماضي لن يعود، والمستقبل سيكون النقيض الأسوأ من الحاضر، وسيُفرض على شعوب هذه الأرض أن يحلموا بالدولة، مرة أخرى، ومعها القرار المستقل في بناء الغد الأفضل.