تزامن الحدث العراقي مع إختطاف الإسرائيليين الثلاثة.. وتزامن أيضاً مع ذكرى 30 حزيران 2013 و فشل الإسلام السياسي في مصر و30 حزيران 2014 وفشل الاسلام السياسي في العراق.. بقي الحدث العراقي خلال الأيام الماضية محل الاهتمام السياسي والدبلوماسي والإعلامي.. وجاءت زيارة وزير الخارجية كيري للمنطقة والعراق وكردستان وما تلاها من مواقف معلنة للوزير الأميركي.. وخصوصاً ما كُتب في جريدة الشرق الأوسط عن النووي الإيراني.. وفي اليوم التالي محضر إجتماعه بالمالكي في العراق الذي نشر في جريدة الحياة وما تضمّنه من تفاصيل بالغة التعبير.. وكأنّي بالوزير الأميركي يتحضّر للرّحيل من منصبه.. بعد الفشل الموصوف في فلسطين والعراق وكردستان وسوريا وأوكرانيا.. مما يجعلني أعتقد بأنّ النصف الثاني من ولاية أوباما سيشبه النصف الثاني من ولاية بوش الإبن الثانية.. وأنّ أميركا عادت إلى تقرير بيكر هاملتون 2007 لتقييم السياسات التي انتُهجت لتحقيق المصلحة السياسية العليا للولايات المتحدة الأميركية.. والذي جاء بعد سياسات بوش الابن التي كانت غايةً في الانفلاش والتوسع.. في حين جاءت سياسة أوباما غاية في الانكماش والتراجع..
لا نستطيع أن نتحدّث عن العراق إلاّ من الزاوية الأميركية، ولعقود قادمة بعد ما استثمرته أميركا في العراق.. منذ حرب الخليج الأولى والثانية والثالثة إلى الإستفتاء على إستقلال كردستان.. وكردستان حقيقة متدرّجة منذ العام 70 مروراً بالحظر الجوي وصولاً إلى دستور بريمر إلى الاستفتاء على الإستقلال.. وللعراق في الوعي الشعبي الأميركي مكانة خاصة تشبه إلى حد بعيد قضية فيتنام.. إذ قُتل في العراق 4400 ضابط وجندي أميركي وأُنفِق ما يُقارب تريليون دولار بالإضافة إلى الاتفاقات الأمنية والاقتصادية الطويلة الأمد..
تعامل الإسرائيلي مع قضية المخطوفين الثلاثة منذ البداية بالجرافات والحفارات والتنقيب في الآبار للبحث عن الجثث.. مما يؤكّد بأنّ إسرائيل كانت تعلم منذ البداية أنّ المخطوفين قد قتلوا ودفنوا في مكانٍ ما.. وهذا ما يأخذنا إلى الإعتقاد بأنّ إسرائيل كانت تعرف الخاطفين منذ البداية أيضاً..
إنّ تزامن هذه العملية مع الحدث العراقي جعلها هامشية وبالكاد كنّا نتعامل معها من زاوية الإعلام الإجتماعي دون أن نأخذ أي احتياط من ردة فعل إسرائيل.. والتي لديها قواعد إشتباك واضحة عندما يصاب أي إسرائيلي.. جاء الرد من خارج السياق.. إذ تمّ اختطاف الطفل محمد أبو خضير وقتله وحرقه أيضاً.. والذي ذكّرنا بــ «محمد الدرة وخالد سعيد ومحمد بوعزيزي وحمزة الخطيب ومحمد الشّعار».. وبدأ ما يشبه الإنتفاضة من مواجهات وحجارة ورصاص مطاط.. ولم يتم الحديث عن أي قتيل في المواجهات منذ يومين.. بالإضافة إلى الغارات على غزة والصواريخ المضادة.. كلّها لا تشبه عشر دقائق من هول ما يجري في سوريا والعراق.. إلاّ أنّ هذه المواجهة ستتعاظم وستأخذ الكاميرا من ميادين العار العربية لتضعنا بالمواجهة الأخلاقية مع جيش العدو الإسرائيلي وكيفية تعامله مع التّجمعات والتّظاهرات.. وكيف سيتلقى الحجارة ويواجه بالغاز والمطاط.. وسيُغرَس في وعي شاباتنا وشبابنا النموذج الإسرائيلي الراقي.. وبذلك تتحوّل إسرائيل من عدّو محتل إلى مَثلٍ أعلى لدى أبنائنا وبصرف النظر عن الرأي العام الدولي..
إخترق تصريح نتنياهو النزاع العراقي وجولة كيري الذي لم يزر اسرائيل.. فتحدّث نتنياهو عن خطورة الصراع الدائر في المنطقة مبدياً قلقه على الأردن واستعداده للتعاون مع مصر في محاربة التطرف السني والشيعي معاً، وتأييده لإستقلال كردستان معلناً انتهاء سايكس بيكو بما هي خارطة طريق لتحقيق وعد بلفور بالتمام والكمال.. وكاد نتنياهو أن يعلن قيام إسرائيل الكبرى من الفرات في كردستان شمال العراق إلى النيل في جنوب السودان.. مع الأخذ بعين الاعتبار حملة التواصل الاجتماعي الاسرائيلي التي تعتبر ان قتل العرب قيم وليس عنصرية.. استناداً إلى قتل العرب لأنفسهم..?
إنّها وقائع وليست أوهام.. وليست تذكيراً لأحد من أعداء إسرائيل المنشغلين في مطاردة العدو في كل مكان والمتمثل الآن بأطفال سوريا والعراق بما هم المستقبل الرافض للعار والاستبداد.. لقناعتهم بأن القضية تبدأ في تصحيح التاريخ القديم قبل تصحيح الخطأ التاريخي الجديد وقيام دولة إسرائيل.. إنّ من يعتقد بأنّ أزمتنا هي في ما قد مات منذ زمن بعيد لا يمكن أن يدرك ما يولد الآن.. فلن نسأل أحد ما أنت فاعل في سوريا والعراق من كلّ أطراف النّزاع.. لأنّ الأزمة الحقيقية الآن هي الصراع على سوريا والعراق.. والإستبداد لا يعيش إلاّ حيث التسطح والغباء..
تتجمّع الآن قطع كثيرة من «البازل»/ puzzle الجديد للمشهد الوطني والإقليمي.. وهي لا تشبه أبداً قطع «البازل» القديمة التي لا مانع إذا كان البعض يريد إقتناء بعضها أو البحث عنها بما هي قطع أثرية تشبه مفاتيح الأخوة الفلسطينيين.. التي حملوها معهم بعد نزوحهم على أمل العودة بعد أسابيع أو شهور أو سنين.. ذهبت فلسطين وبقيت المفاتيح.. ليس في الحاضر الوطني والإقليمي ما يستحق أن نحتفظ به أو نبكي عليه سوى الأطفال الذين سيرثون هذا الحمل الثقيل من الدماء والدمار والغباء والتّخلف والإدّعاء والوقاحة وانعدام الأخلاق والكفر بمقاصد الدين ونعم الله..
قدّمنا عرضاً للمشاهد المتداخلة والمتقاطعة في اللحظة الواحدة من إسرائيل الى سوريا الى العراق وكردستان ولبنان ومعهم أميركا.. والحقيقة أنّنا جميعاً شاهدنا هذه الأحداث رغم المونديال والمسلسلات.. وهذا بحدّ ذاته تشتيت للوعي مما يجعل المشاهد يكتفي بحريق واحد يتابعه.. فالذي يتابع العراق لا يتابع سوريا والعكس.. وكذلك إسرائيل والوطن العربي وغيره.. لأنّ إتّساع الأحداث أي عرضها يجعل الإحاطة بها غير ممكنة.. ويُخطئ البعض حين يعتبر أنّ هول العرض هو طولاً.. وهذا غير صحيح فالتّطورات شديدة الهول والإتساع لدرجة أنّها لا يمكن أن تستمر لوقت طويل.. وقد نشهد قريباً تحريكاً للأجواء الحربية الجوية كتلك التي حصلت في ليبيا من قبل القوات المتعددة الجنسيات تحت راية الفصل السابع للقرار 1546 الخاص بالعراق ومحاربة الإرهاب والذي سيشمل الآن سوريا مع العراق.. وستتموضع إسرائيل أكثر فأكثر فيما يدور حولها.. وقد نشهد دعوات لمؤتمرات إقليمية ودولية تمهيداً للمؤتمر الدولي للسلام في الشرق الأوسط وتحضره كلّ من تركيا وإيران وإسرائيل.. لأنّ هذا الهياج في كل مكان يقول بأنّنا نشهد نهايات ربما كارثية ولكنها غير قادرة على الإستمرار لوقت طويل لأنّ الحريق أكل الجميع بدون إستثناء..
إنّها الدبلوماسية الحامية والتي تستوجب ويلات وويلات.. قد تضيع دول كما ضاعت شعوب.. وستموت ثقافات وقيم وصداقات وعلاقات.. وسيموت كلّ ما عرفناه.. وسندرك بأنّ أوطاننا مؤقتة.. وهويّتنا الوطنية مؤقتة.. ومنازلنا مؤقّتة.. وصداقاتنا مؤقتة.. وسياساتنا مؤقتة.. وحكوماتنا مؤقتة.. وأحلامنا مؤقتة.. إنّنا نشهد موت محاولات مئة عام من التّفكير والتّنظير والتنظيم.. إنّنا أمام سقوط فكرة الإستقلال وسقوط الأيديولوجيات السياسية.. القومية والدينية.. المتمثلتين أولاً بالبعث والاتحاد الاشتراكي والقوميين العرب والأحزاب المتفرعة منها الوطنية والقومية يميناً ويساراً.. وثانياً بالأيديولوجيات الدينية وبشكل خاص الإخوان المسلمين في مصر وحزب الدعوة في العراق والتيارات الجهادية والتنظيمات المسيحية..
وها نحن بعد مئة عام من الاجتهادات والنظريات والتنظيمات والأحزاب والميليشيات والتيارات الفدائية والجهادية والقضية المركزية ومحاربة العدوان وتحرير الأرض من الإحتلال.. والتي كانت كلها مجرد تغطية للعجز عن عدم قيام الدولة الوطنية الحديثة والعجز عن إدارتها.. لأن الحكام كانوا يستمدّون شرعيّتهم من المعتقد المقدّس أو من القضية المقدّسة.. وهم أشبه بملوك أوروبا عندما كانوا ظلّ الله على الأرض فظلَموا وأفسَدوا فكان الجهل والفقر والحروب..
إننا بعد ثلاث سنوات من إعلان فشل النخبة في قيام وإدارة الدولة.. والتي أدت إلى سقوط الأنظمة في مصر وتونس واليمن.. وسقوط السيادة في كل من ليبيا وسوريا والعراق.. حيث سقط معها أسباب وحدة الشعب والكيان.. بعد قرن من الزمان كان فيه كل شيء مؤقت.. سقطت الأيديولوجيات العربية وبقي العرب.. وسقطت الأيديولوجيات السياسية الدينية وبقي الإسلام والمسيحية..
حدّثني الراحل الأستاذ غسان التويني في إحدى المرات القليلة التي إلتقيته بها.. وكان ذلك في فندق فاندوم (le premier) قبل أحد عشر عاماً.. عن الفرق بين التّفرّج على الأخبار بما هي مناظر ومشاهد أشبه بالأفلام وبين قراءة الأخبار ودقّة التّعبير والتّعمّق في الأحداث.. وأنّ القراءة تتراجع أمام المشاهدة.. وفي ذلك دليل على تراجع النخبة وتأثيرها أو حضورها في وجدان الأجيال الجديدة حيث يتقدّم الآن المطرب العادي على الروائي أو الشاعر الكبير لدرجة أنّنا بتنا لا نشاهدهم حتى في البرامج الترفيهية.. لأنّه بحسـب منطق الــ(audience ) أي المشاهدة.. لا أحد يهتم لأمرهم أمام العنف السياسي والإصطفافات أو المطربات الجميلات اللواتي لا يُجدْن الغناء.. رحم الله غسان التويني.. ومعه زمن القراءة والقراء..
إنني أقول للمتفرجين على الأخبار أنّ ما تُشاهدونه ليس فيلماً سينمائياً أو مسلسلاً درامياً.. فالبيوت التي تُحرق وتُدمَّر هي بيوتكم.. والأطفال الذين يُقتلون ويُشرَّدون هم أطفالكم.. و.. و.. و.. إنّهم أنتم وإنكم تتفرجون على موتكم وجهلكم وتخلّفكم وفشلكم..
وأما للقراء وهم قلّة.. وللدكتور رضوان السيد.. الذي عبّر لي الأستاذ غسان تويني عن إعجابه به كمفكّر وقارئ أوّل.. وهو عالم وفقيه وأستاذ وباحث ومحقّق وفصيح وناقل للمعرفة ومترجم ومنتج للسياسة حالياً.. وأتمنى أن يتّسع وقته لقراءة مقالتي.. وأقول له: لقد فشلت النخبة.. وشُرِّدت الناس.. وذهبت فلسطين.. وبقي العار!