أن تستغيث الحكومة العراقية طالبة المدد من الولايات المتحدة وإيران، وأن تدعو جمهورها إلى تشكيل جيش رديف وتستنهض حلفاءها في الائتلاف الشيعي، يعني ذلك بوضوح أنها عاجزة عن المواجهة وإيجاد حل سياسي. وأن يستظل خصومها من السنّة راية «داعش» يعني ذلك عجزهم عن مواجهة بغداد ومن خلفها طهران، وضيقهم من سياسة التهميش والإقصاء وتجاهل المجتمع الدولي أوضاعهم المزرية. وأن تدخل قوات «البيشمركة» مدينة كركوك ونواحي وقرى متنازع عليها مع المركز يعني أن الكرد وشركاءهم عجزوا عن التفاهم سياسياً طبقاً لمنطوق المادة 140 من الدستور لإيجاد تسوية مرضية لمستقبل هذه المناطق.
عندما يستنجد العراقيون بواشنطن وطهران يدركون تماماً أن الحل يأتي من العاصمتين وليس من واحدة منهما. الرئيس باراك أوباما الذي أبدى استعداداً لتدخل عسكري محدود اشترط أن تقوم حكومة تمثل جميع الأطراف من دون استثناء. ولم تفته الإشارة إلى عدم مراعاة مصالح السنّة في السنتين الفائتتين. كان يقول مواربة بوجوب رحيل رئيس الحكومة، أصل المشكلة. أي أن هذه المصالح لن تتأمن بالتجديد ولاية ثالثة للسيد المالكي الذي خاض معركة واسعة من سنتين ضد زعماء هذه الطائفة ومصالحها. صار هناك إجماع محلي وإقليمي ودولي على وجوب رحيله مقدمة للبحث في تسوية سياسية تشرك أهل السنّة الذين يتفيأ بظلهم تنظيم «داعش» وغيره من الميليشيات المسلحة، على رغم أن معظمهم لا يلتقي معها أيديولوجياً. والرئيس حسن روحاني الذي أبدى استعداداً للتدخل من أجل حماية المقامات الشيعية المقدسة يدرك حدود التدخل العسكري وأخطاره. لكنه في المقابل يمكنه أن يبعث برسالة يبدي فيها استعداده للتخلي عن رأس المشكلة.
جازف المالكي بوضع البلاد والمنطقة كلها تحت رحمة حرب أهلية واسعة وسيف التقسيم. نجح في دفع الكتل السنّية إلى أحضان «داعش»، كما فعل ويفعل الرئيس بشار الأسد: إما هو وإما «الدولة الإسلامية»! لذلك، لن ينجح أي تدخل أميركي أو إيراني في مواجهة هذه «الدولة» ما لم يحصل أهل السنّة مدناً وقبائل وعشائر ومؤسسات أمنية وعسكرية، على بديل مقنع. هذا البديل هو ببساطة إشراكهم في إدارة الدولة. إشراكهم من دون تمييز وتفرقة في القرارات والمؤسسات… والمغانم في بلد ضرب الرقم القياسي في الفساد. أي أن ينالوا حصتهم ما دام العراقيون اختاروا منذ سقوط نظام صدام حسين صيغة «المحاصصة». ولا جدال في أن زعيم «دولة القانون» ليس هو الرجل الثقة بعد تجربتين مرتين طوال ثماني سنوات من الوعود الكاذبة. وإذا كانت التطورات التي شهدها العراق استنفرت العالم، فإن مواجهة هذا التحدي لا بد من أن تنطلق من تفاهم سياسي سريع بين واشنطن وطهران وعواصم عربية عدة لا يروقها استئثار الطرفين، على تشكيل حكومة جديدة في بغداد.
الولايات المتحدة بدأت إعداد مسرح العمليات: وجهت حاملة طائرات إلى مياه الخليج، وأمرت بتوجيه مستشارين عسكريين لمساعدة الجيش العراقي، وبعثت بوزير الخارجية جون كيري إلى أوروبا والمنطقة لتهيئة الأجواء السياسية. لكن تدخلها العسكري من دون إطلاق عملية سياسية سيوجه رسالة خاطئة إلى السنّة، ويفاقم الأوضاع ويدفعهم نحو مزيد من التمسك بالميليشيات المتشددة وغير المتشددة. كما أن التدخل الإيراني الذي بدأت نذره، أياً كان شكله، سيبعث برسالة مماثلة. قد لا تكون طهران مستعدة اليوم تحت ضغط الأحداث للتنازل عن المالكي الذي أعاد حشد القوى الشيعية السياسية والدينية خلف دعوته إلى مواجهة «الخطر المحدق» ببغداد ومدن الجنوب. علماً أنه المسؤول الأول عن انهيار الجيش العراقي في الموصل وباقي المحافظات الشمالية والغربية، سواء عمداً أو نتيجة سياسته الفئوية.
هناك من يعتقد بأن المالكي فضّل ويفضّل أن يكون زعيماً على إقليم شيعي إذا تعذر عليه أن يعود إلى حكم البلاد كاملة. لكن السؤال هنا: هل ترضى إيران بأن يقوم إقليم سنّي يسيطر على الحدود الغربية وبواباتها ليقطع عليها طريق التواصل مع سورية حيث رمت بكل ثقلها ولا تزال خلف النظام هناك؟ لعل مثل هذا ضرب من الوهم يشبه توهم كثير من القوى المحلية والإقليمية والدولية بأن إيران يمكن في النهاية أن تتخلى عن دمشق، وحتى عن الرئيس بشار الأسد. ويخشى أن يتكرر الخطأ نفسه في اعتقاد بعضهم بأنها قد تتخلى بسهولة عن موقعها في العراق، أو حتى عن المالكي!
لا جدال في وجوب مواجهة «داعش» الذي يسعى إلى إقامة دولته في بلاد الشام. فلا شيء يحول دون مغامرته في التوجه نحو الأردن، على رغم صعوبة مثل هذا الهدف. فالمملكة ليست لقمة سائغة. فلا النظام في خطر ولا مؤسساته تعاني من وهن وعصبيات. فضلاً عن أن استقراره يشكل مصلحة لقوى إقليمية ودولية عدة لا يمكن أن تسمح بالمس به وبهويته وأمنه وتحويله مرتعاً للمتشددين والجهاديين الذين يسعون أيضاً إلى فتح جبهة في لبنان بعودة السيارات المفخخة والمجموعات الإرهابية إليه. علماً أن فكرة التقدم إليه كما حصل في المحافظات الشمالية والغربية في العراق، أو في مناطق الشرق والشمال السوريين أمر متعذر. حدوده الشرقية بعهدة الجيش ومواقع «حزب الله» متقدمة داخل الحدود السورية. فضلاً عن أن إيران لا يمكن أن تسمح بقيام دولة سنّية تمتد من حدود دمشق إلى مشارف بغداد. لا يمكن أن تسكت عن قيام كيان معادٍ يفصل بين العاصمتين ويحول دون وصولها إلى بيروت.
الداعون إلى مواجهة «داعش» وجميع المعنيين بالشأن العراقي في الداخل والخارج مقتنعون بأن هذا التنظيم توسل شعور السنّة بالتهميش والإقصاء رافعة لحضوره الواسع. وتوكأ هؤلاء عليه مستفيدين من قوته وانتشاره، بعدما كانت «صحواتهم» حاربته وطاردته على أمل تحقيق مطامحهم ومطالبهم التي وعدهم بها الأميركيون وتخلى عنها المالكي لاحقاً. لذلك، لا بد من التمييز بين «الدولة الإسلامية» وبين عموم السنّة العراقيين في خضم أي مواجهة عسكرية. بل لا يمكن شن مثل هذه المواجهة ما لم يسبقها تفاهم سياسي وإصلاح حقيقي في بنية الحكم يرضيهم وبقية الطوائف. علماً أن بعض القوى المناهضة لزعيم «دولة القانون» لا تنظر بعين الرضا إلى قرار الرئيس أوباما إرسال مستشارين لمساعدة الجيش العراقي، لأنهم ينظرون إليه ببساطة «جيشاً للمالكي».
وفي هذا المجال ليس سراً أن إيران ساهمت في تراكم الغضب السنّي. يكفي أن قوى سياسية تحملها مسؤولية تصفية أكثر من 400 أكاديمي عراقي، وفرار كثيرين من الطيارين العسكريين السابقين إلى كردستان، فضلاً عن اغتيال شخصيات وكوادر وعسكريين سابقين، ومطاردة عائلات، والمساهمة في ترحيل جماعي من نواحٍ ومدن… كما أن التفاهم الأميركي – الإيراني على تجديد ولاية المالكي قبل أربع سنوات، وتجاهل المجتمع الدولي مظالم المحافظات الشمالية والغربية ساهما في وصول الأوضاع إلى ما وصلت إليه في هذه المحافظات الشمالية والجنوبية. بعد كل هذا هل ستثق القوى السنّية بأي تسوية تدفعها إلى تحييد «داعش» وتحجيمه، أم إن الحل السياسي الوحيد هو بإقامة إقليم سنّي، كما نادى رئيس حكومة كردستان نجيرفان بارزاني؟
بالطبع إن تهديد «داعش» بالزحف إلى بغداد لا قيمة له، ومثله التلويح بالزحف نحو المراقد الشيعية في الجنوب. في العاصمة والنجف وكربلاء يشكل السنّة أقلية. بالتالي لا يمكنهم توفير بيئة حاضنة للمسلحين والميليشيات. في حين أن الغالبية الشيعية لن تقف مكتوفة. وكذلك الجيش الذي سيستعيد ثقته بنفسه وسط بيئة يلقى دعمها. إضافة إلى أن إيران لن تسمح بوصول الجماعات المتشددة إلى حد تهديد النظام الذي رعت قيامه. وهي أرسلت مبدئياً عناصر من «الحرس الثوري»، كما فعلت في سورية لتقديم المشورة والدعم إلى حلفائها. وإذا كانت نجحت في حماية الأقلية الحاكمة في دمشق، فهي واثقة من حماية الأكثرية في بغداد… وإن أدى الأمر إلى تمزيق البلدين. فهل يضيرها تفتيت بلاد الشام لتستقيم لها الإقامة طويلاً في المشرق العربي؟
المشكلة الأخرى التي فجرتها سياسة المالكي كانت توسع الكرد إلى كركوك ومناطق متنازع عليها كان يفترض استناداً إلى المادة 140 من الدستور أن تحل بالتفاهم السياسي بين بغداد وأربيل. لكن مماطلة زعيم «دولة القانون»، ثم شنه حملة ضغوط على كردستان وتهديد الإقليم بالحرب وقطع الرواتب عن الموظفين هناك، كلها أسباب دفعت القيادة الكردية إلى دخول النواحي موضوع الخلاف. ولا يعتقد عاقل بأنها ستسلم بإعادتها إلى المركز. بل لعلها ستتحول مستقبلاً قنبلة موقوتة وستزيد الأوضاع تأزماً وتعقيداً.
هناك أيضاً الشق السوري من الأزمة الحالية. وقد شن نظام الرئيس الأسد للمرة الأولى غارات على مواقع «داعش» شرق البلاد. ثمة معلومات تحدثت عن استهداف قوافل من الذخيرة من تلك التي غنمتها «الدولة الإسلامية» من مخازن الجيش العراقي وثكنه ومواقعه. لكن هذه الغارة قد تكون رسالة سياسية إلى جميع المعنيين بمواجهة تداعيات ما حصل في الموصل وغيرها من مناطق في العراق مفادها واضح وهو أن دمشق لا تزال حاضرة، ويمكن أن تساعد في مواجهة المجموعات الجهادية التي تهدد مصالح الولايات المتحدة ودول المنطقة، كما قال الرئيس أوباما في كلمته أخيراً. وهي رسالة تعبر أيضاً عن مخاوف من «صفقة» بين واشنطن وطهران يغيب عنها نظام الأسد. إذ بات واضحاً أن مواجهة «الدولة الإسلامية» في سورية باتت أصعب من ذي قبل، بعدما نجح هذا التنظيم في التمدد على طول المساحة من غرب العراق وشماله إلى شرق سورية وشمالها.
إذا كانت إيران تشعر اليوم بأنها تملك مفاتيح الحل في كل من العراق وسورية ولبنان، وثمة من يتهمها بأنها تقف ودمشق خلف قوى «داعشية» باختراقهما هذا التنظيم، فإن عامل الوقت ضاغط لا يرحم، فدفع سنّة العراق وسورية تحت راية «الدولة الإسلامية» يفتح عليها عاجلاً أم آجلاً حرب استنزاف قد لا تكون قادرة على تحمل أعبائها… خصوصاً إذا نجح هؤلاء، وهم الأكثرية في البلدين، في تحويل مناطقهم فيتنام «شمالية» أو أفغانستان «طالبانية».