Site icon IMLebanon

إيران وروسيا… توجّس من التاريخ وشراكة مصالح أكثر من خيار استراتيجي

 

تنطوي العلاقات الإيرانية-الروسية على الكثير من الخبايا التي تحمل بذور إحتمال عدم استمرارها بخلاف ما يروّج البعض حول متانتها، ذلك أنّ موقفهما هو رغبات أكثر منه وقائع وتضارب مصالح، وتحديداً في مسألتين إثنتين: «الصراع التاريخي على الدور الإقليمي أي على آسيا الوسطى والقوقاز أولاً، وثانياً الصراع على التجارة والثروات في بحر قزوين من الثروة النفطية الى السمكية».

التدخل الروسي في بلاد فارس قديم-جديد، ففي محطات تاريخية يظهر أنّ روسيا لم تأمن لايران في ظل حكم الشاه وبعد انتصار الثورة الخمينية. فالتدخل العسكري الروسي في زمن الحرب الأهلية بين المؤيدين لمحمد علي شاه والمعارضين له أتى تحت شعار حماية المواطنين الروس والتجارة الروسية.

فقد حصلت ثورة من أجل الإصلاح الدستوري بين 1905-1911، أجبرت الشاه مظفر الدين على إقرار دستور للبلاد وتشكيل برلمان. وفي1907 تم التوقيع على المعاهدة البريطانية الروسية لتقسيم إيران الى ثلاثة أقسام: شمال إيران للروس، ايران الوسطى منطقة محايدة وقسم منها لألمانيا الحرة، أمّا جنوب إيران فوضع تحت النفوذ البريطاني.

في العام نفسه تولى محمد علي شاه العرش واعداً بالمحافظة على الدستور، ليعود ويقوم في 24 حزيران 1908 بانقلاب، وفي تبريز بدأت انتفاضة شعبية ضد الشاه فاستولى الثوار على المدينة بمساعدة روسية. وبالتالي، كان أول تدخل عسكري روسي في إيران بعيد الانتفاضة الشعبية (1909-1911) تحت شعار الدفاع عن المواطنين حاملي الجنسية الروسية.

التدخل الثاني في 1941، كان نتاج عملية عسكرية بريطانية-روسية مشتركة، للإستيلاء على آبار النفط الإيرانية تحت شعار حمايتها من سيطرة ألمانية محتملة، وحماية الممر الجنوبي لتأمين الإمدادات العسكرية واللوجستية لروسيا لمنع إيران من القتال الى جانب المانيا ضد الحلفاء. ذلك أنّ الشاه رضا بهلوي رفض إقامة قواعد عسكرية للإتحاد السوفياتي وبريطانيا، ما دفع الى تدخل عسكري للقوات السوفياتية على أساس بنود اتفاقية الدفاع المشترك، التي كانت تجيز لأي طرف الدخول الى أراضي الطرف الاخر في حال وجود تهديد خارجي.

التاريخ المعاصر

هذا في التاريخ المعاصر، أمّا في التاريخ القديم فحصلت حملات روسية عدة على إيران وبلاد فارس:

-الحملة العسكرية الأولى في أيار 1722 بهدف حماية التجار الروس من القرصنة، فيما كان الهدف المخفي الوصول الى شاطئ بحر قزوين ومنع تمدد تركيا نحوه.

-الحملة العسكرية الثانية في عام 1796 ووجهت الى مقاطعة أذربيجان الفارسية، كردّ على التدخل الفارسي واحتلال جورجيا في عام 1795. وتم سحب هذه القوات بعد عقد صلح مع إيران على يد الأمبراطور باول الأول.

-حرب 1804-1813 تم التدخل في بلاد فارس على أساس التهديد الدائم الممارس على جورجيا من قبل الحلف الإيراني-التركي، واستناداً الى المعاهدة الموقعة بين روسيا وجورجيا، والتي قضت بدفاع روسيا عن سيادة جورجيا في حال تعرضها لتهديد خارجي. وبأسلوب يحاكي تدخل روسيا في القرم، أتى تدخل روسيا بناء لرغبة ملك جورجيا الذي طالب بالانضمام الى الامبراطورية الروسية، وبعد أن احتلت القوات الروسية بعض المواقع المتقدمة، أعلنت بلاد فارس الحرب على روسيا، التي انتهت بتوقيع اتفاقية سلام في جولاستان وقضت بضم عدد من المقاطعات الفارسية الى روسيا، في ما يسمى اليوم أذربيجان، وضمن شروطها سيطرة الأسطول الروسي واستحداث قواعد بحرية له في بحر قزوين.

4-حرب 1826-1828، شنتها بلاد فارس على الامبرطورية الروسية لاستعادة مناطق في شمال القوقاز، انتهت بتوقيع معاهدة صلح أدت الى الاعتراف الكامل بهيمنة الأسطول الروسي على بحر قزوين.

غاية هذه اللمحة التاريخية لاثبات أنّ العلاقات الروسية – الفارسية وحديثاً الايرانية-الروسية ليست كما يُنظر اليها، بل قامت على خصومة تاريخية وجيوسياسية ودوائر مصالح. فروسيا حرصت على إضعاف دور جارتها الجنوبية. من هنا يمكن الاستنتاج أنّ لا آفاق لمستقبل هذه العلاقات، بخلاف المتفائلين، وأنّ ما يجمع البلدين مصالح تقتضي في بعض الأحيان أعمال سياسة حسن الجوار وأحياناً فرض اعتراف إيران في حق الجار الأقوى بحصته في مياه وثروات بحر قزوين، والتي بدأت تظهرمنذ لحظة سيطرة القيصر ايفان الرهيب على مقاطعة أستراخان -الحد الجغرافي الفاصل بين آسيا وأوروبا- منذ ذلك التاريخ بدأت هذه العلاقات تشهد مساراً لولبياً وملتوياً.

علاقات لم تشهد ربيعها الفعلي إلاّ في العقدين الأخيرين، أما مبعثها تطابق وجهات النظر بشأن المصالح المشتركة في مقاربة بعض الأزمات في الشرق الأوسط والخليج العربي وصراعات القوقاز.أما ما يمكن استشفافه هو محاولة ايران قطف ما يمكن مع تقديمها تنازلات سيادية أحياناً للحصول على امتيازات، تمكنها من أن تصبح لاعباً إقليمياً، كدور الخبراء الروس في بناء محطات نووية وتحديداً في بوشهر وتنازلات في الاقتصاد والامتيازات التجارية.

إنّ هذه العلاقات في اعتقاد الكثيرين معرضة للاهتزاز في حال لم توازن إيران بين مصالحها وعلاقاتها أو تفاوضها مع الغرب ومراعاة المصالح الروسية، حيث أنّ سياسة اللعب على طرف الحبل قد تؤدي الى إنهيارات خطيرة، ستنعكس على مستقبل العلاقة بين موسكو وطهران من جهة وبين إيران والغرب من جهة أخرى.

وفي إنتظار ذلك، تتفاعل على حدود إيران قضايا لها انعكاساتها السلبية على علاقتها مع روسيا ومنها العلاقات الأذربيجانية-الايرانية التي تشهد توتراً غير مسبوق على خلفية اتهامات اذربيجانية لايران بالتدخل لتقويض منظومة القيم الثقافية للمجتمع الآذري وتجنيد عملاء ايرانيين لمصلحة الجمهورية الاسلامية، من دون إغفال أنّ الأذربيجانيين هم أيضاً من الشيعة، و20 في المئة من سكان إيران هم من الأثنية الأذربيجانية.

رغم الحديث المتكرر في إعلام البلدين عن علاقات حسن الجوار، يثير الموقف الايراني الرسمي شكوكاً لدى باكو، لجهة دعم ايران لأرمينيا في صراعها مع اذربيجان حول اقليم ناغورني كارباخ، وتوقيع طهران لأكثر من ثلاثين اتفاقية مع يريفان، وتصدير إيران الغاز وثروات طبيعية مختلفة والنفط الى أرمينيا. في الوقت عينه، تتهم أذربيجان بعلاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة وإسرائيل وتحولت بنظر ايران الى قاعدة للتدخل ضدها، ويراود ايران الشك بأنّ الهام علييف جاهز لتقديم قواعده للاسرائيلين في أي ضربة محتملة ضد ايران، حتى أن هناك اتهامات بأن عمليات الاغتيال التي استهدفت علماء الذرة الايرانيين نفذها إسرائيليون قدموا إلى إيران عبر أذربيجان.

في المقابل، يتهم الطرف الأذربيجاني جاره الجنوبي بمحاولة تصدير الثورة الإسلامية اليه.وتتناقل بعض الأوساط المتابعة أخباراًَ مفادها، أنه ومن بين أسباب التوتر هو وعي روسيا أنّ التخلي عن أذربيجان له نتائجه الكارثية على مستقبل فضائها الآسيوي الذي يصل الى حدود كوريا والصين، وهو لن يكون على حساب علاقاتها مع ايران التي تشوبها الكثير من السلبيات ولا تعود بالمنفعة المرجوة، فحجم التبادل التجاري هو أرقام مضخمة، وهي اتفاقيات في الغالب لا تنفذ، كما أن روسيا تنظر بارتياب شديد للدفء المتوقع في العلاقات الغربية الايرانية التي ستنعكس سلباً على الاقتصاد العالمي وأسعار النفط وعلى روسيا تحديداً.

إن أي اتفاق إذا حصل بين ايران والغرب سيفتح الباب واسعاً أمام ايران للمشاركة في مشاريع مد وبناء خطوط الغاز العالمية، وهي ورقة رابحة في يد إيران وقد تفتح الباب امامها لضح الغاز الايراني مباشرة الى السوق الأوروبية، من دون مراعاة المصالح الروسية، هذا ما يتطلب من الروس الشروع ببناء ما يسمى بالخط الجنوبي الثالث عبر القوقاز الذي يؤمن الغاز الى أوروبا بعيداً عن تركيا وايران.

يعتقد مراقبون أنّ كل هذه الحسابات هي أساس دفع موسكو لعدم جعل طهران عضواً كامل العضوية في معاهدة شنغهاي، وكذلك في الضغط والمناورة الذي تمارسه موسكو بشأن بيع طهران الصواريخ من نوع أس 300 وتجميدها وتحريكها وفق الحاجة، اضافة الى التردد في ما يخص قيام الرئيس الروسي بزيارة رسمية الى طهران.

على خط التوترات المحتملة، يستحضر باحثون إيرانيون اوجه الصراع بين موسكو وطهران، ويجزم قسم كبير بأنّه لا آفاق لهذه العلاقة ويعود بالذاكرة التاريخية الى الأحداث والاشكاليات الحدودية العلاقة والتدخل الروسي في الشأن الداخلي الإيراني، واعتقاد هؤلاء بأن روسيا تستخدم إيران والملف النووي لتحسين علاقاتها وشروطها التفاوضية مع أميركا والغرب.

توازياً، هناك من يروّج في روسيا لاحتمالات أن لا تكون ايران شريكاً أميناً بدليل تصريحات رسمية صادرة بشأن الوضع في الشيشان وداغستان وضرورة حل هذه القضايا سلمياً. هذا عدا أن أية محادثات حول تقسيم الثروات في حوض بحر قزوين ستوتر العلاقات، فلا مصلحة للطرفين بانجاز أي اتفاق، خصوصا وأنّ هناك طموحات إيرانية بنقل الغاز والنفط من قزوين الى مقاطعاتها الشمالية، مما يجعلها قوة اقليمية سيحسب لها حساب في اي معادلة، الأمر الذي يقلق روسيا. أما توقيع اي اتفاقية سيؤدي الى فقدان الطرفين نحو 200 ألف كيلو متراً مربعاً من حوض بحر قزوين، ويعزز دور أذربيجان وكازاخستان الطامحتين لانجاز مشروع الوضعية القانونية لحوض قزوين، مما يفقد روسيا دوراً عملت له قروناً.

قلق روسي

لا شك أن الذي يقلق روسيا هو طموح ايران للعب دور محوري في جمهوريات آسيا الوسطى، من خلال توقيع اتفاقات تعزز العلاقات الثقافية وتقدّم دور اللغة الفارسية على حساب الروسية في هذه الجمهوريات وتعزيز مكانة المذهب الشيعي فيها.

وعلى رغم أنّ هناك توافقاً إيرانياً-روسياً بشأن تقييم مشترك لطبيعة الصراع الناشئ في القوقاز ودول آسيا الوسطى وأفغانستان وآخر حول حوض بحر قزوين، وهو توافق ظرفي، وسببه مد خط أنابيب باكو-جيهان عبر القوقاز وتحديداً أذربيجان وجورجيا وتركيا، وأيضاً خط الغاز الذي سيمرّ في عمق بحر قزوين والذي سيؤمن مرور الغاز التركماني الى تركيا، هذان الخطان سيتجاوزان ايران وروسيا ويمران عبر جمهوريات اخرى، مما يضرب مصالح البلدين ويعزز دور الدول الغربية وتركيا في حوض قزوين. من هنا، هناك مصلحة مشتركة تفرضها الوقائع وتقوم على تفاهمات بالتنسيق مع أرمينيا، لكن هذا الحلف الثلاثي معرض للاهتزاز، إذ أنّ التدخل والتمدد العقائدي الايديولوجي الايراني يزعج ويخيف روسيا ومصالحها في آسيا الوسطى والذي دفعت في سبيله الكثير من الدماء والضحايا، وبالتالي في اللحظة الذي تبدأ فيه ايران بنسج علاقات جديدة مع شركائها الجدد بعد فك عزلتها، فإن لذلك أثمانه الكبرى فهي ستتفرغ لاقتصادها وستفقد مواقع أعطتها بعضا من النفوذ وحق التأثير والتقرير في سوريا والعراق وسيتراجع دور حلفائها في لبنان واليمن.

وسيبقى حوض قزوين موضع نزاع ومحط أنظار كل من روسيا، وايران،كازاخستان ،أذربيجان وتركمنستان.

ومن اللافت ختاماً أنّ البدء في التنقيب في قزوين عن النفط والغاز أدى الى قيام البحرية الايرانية عام 2002 بمحطات الحفر المخصصة للتنقيب والاستخراج العائدة لشركات بريطانية واذربيجانية مشتركة، ذلك انه حسب المزاعم الايرانية فان عمليات التنقيب كانت تتم في المياه الاقليمية الإيرانية، حينها أعلن الطرفان انهما سيدافعان عن مصالحهما ومياههما الاقليمية بكل ما أوتيا من قوة.

إنّ خطط فلاديمير بوتين لاعادة بناء روسيا باعتبارها القوة الاكثر نفوذا في العالم تعني استمالة الدول التي تملك احتياطات النفط والغاز الطبيعي، وهكذا ستقع اذربيجان بين خطر موسكو والتي ستتخلى عن قدرتها على المجاملة في العلاقات مع الجيران من اجل ممارسة السلطة في المنطقة والعالم، وخطر طهران التي تحاول جلب الاذريين تحت أجنحتها المتطرفة.