Site icon IMLebanon

الأمة بين نارين

نجح الجيش والحكومة في محاصرة أزمة عرسال وإبعاد شبح اتساع التوتر داخل الجغرافيا اللبنانية. لكن ظلت الحدود ووجود المسلحين فيها مصدر قلق ومصدر تداعيات ارتباطاً بتطورات الوضع السوري. أما «دولة الخلافة الإسلامية» فهي تتوسع في العراق وسوريا وتخلق ديموغرافيا جديدة وتكتسب عناصر مادية تطرح أكثر من سؤال عن مستقبل خطرها في المدى المنظور بطروحاتها وسلوكياتها وإلى أي مدى سيتم استثمارها خارجياً ولأية وظيفة وبأية حدود. فإذا هي تركّزت في بعض المناطق وجذبت إليها كل الجماعات المشابهة لها في العقيدة والممارسة، فهي لن تعفي لبنان من أخطارها ولن تتركه خارج استهدافاتها.

برغم كل صيحات الاستنكار وبيانات الإدانة عربياً ودولياً لم نجد عملاً ملموساً يترجم في التصدي لهذه الظاهرة توطؤاً أو عجزاً. ليس مفهوماً بعد تفجير هذه الظاهرة بهذا الحجم وبهذه السرعة وما هي الجهات التي تعاونت على إخراج هذا المشهد العبثي ليس لإسقاط الحدود وهيبة الدول والكيانات والجيوش، بل لأجل تفجير المجتمعات نفسها وتدمير مكوناتها ولو ان ما ظهر على السطح أكثر مأساوية وهو «جرف الأقليات وتهجيرها»، وكأنها بذلك تستكمل ما فعلته السلطات والأنظمة وحروبها لإعادة تركيز سلطانها على عصبيات طائفية بعد زوال شرعياتها الوطنية. ولا شك ان ما جرى خلال السنوات القليلة الماضية جزء من مشروع دولي وان معظم القوى الفاعلة على هذا المسرح الدموي التدميري التفكيكي مندرجة في السياق الموعود «لشرق أوسط جديد»، لكن هذا الجذر الأصلي لمشكلات المنطقة يستدعي السؤال عن مواجهة دولنا وأنظمتنا له وعن مواجهة مجتمعاتنا إذا صرنا نتحفظ على مصطلح شعوبنا.

فلا يمكن بأي حال من الأحوال ان ننسب إلى الغرب استيلاد كل هذا المستوى من الأصوليات الجهادية التكفيرية على تفاوت مراتبها وأفكارها وفعاليتها وهي عميقة الارتباط بثقافة المنطقة وما أفرزته على مدى قرون.

فإذا كانت الدول التي تعرضت للانهيار قد بقيت دولاً فاشلة في معظم مهماتها ووظائفها وأدوارها، ففي كل مكان اتسعت ظاهرة «الإرهاب» كان هناك العجز حتى العسكري والأمني لأنظمة كانت أولوياتها العسكرة والأمن، فلا هي نجحت في حماية حدودها ولا شعوبها ومكوناتها حين تم اختراقها «بالأمن».

لن نكرر جردة القضايا التي كانت الشعوب ترزح تحت أثقالها وتلزم بالخضوع وتُعطى ثقافة المسكنات والتشويه التي صارت الآن ثقافة إقصائية عنيفة وتدميرية. فمن باب التبرير المستمر لعجز القيادات وفشلها الادعاء ان الإسلام السياسي اجتاح المواقع المدنية التقدمية القومية واليسارية والليبرالية بمعزل عن سياسات القمع والمحاصرة التي قامت بها الأنظمة نفسها، وفي المقدمة «أحزاب الأنظمة» وعقائدها ومؤسستها.

لقد عاشت «الأمة» نصف قرن بين نارين: نار المطامع الخارجية وخطط السيطرة، ونار الاستبداد الداخلي الذي عزل الشعوب عن ممارسة دورها واكتساب حريتها كشرط أساسي لدورها الفاعل. وها نحن الآن أمام النار الثالثة التي انتقلت إلى المجتمع نفسه لسببين: الإرث الثقافي الذي ساد من قبل وعجز الأنظمة عن مواجهة الخارج وبالذات إصرارها على إقصاء شعوبها. فالواقع الواضح الآن ان الجماعات الأصولية تعتدي على الدول والمجتمعات لكنها لا تلقى مقاومة بالمعنى المنظم من داخل المجتمعات على مستويات عدة، بل ان الشعوب أصبحت في حال من التهميش بسبب هذا المستوى من العنف ومن التدخل الخارجي الذي لا مكان فيه لكل التيارات والحركات السياسية المدنية.