لأول مرة منذ تأسيس الكيان ثم منذ استقلال دولة لبنان، يقوم الجيش اللبناني بمهماته الأساسية، وأبرزها حماية الأمن في الداخل من بعض أهل الداخل والخارج. ففي عام 1958، نأى اللواء فؤاد شهاب بجيشه عن “الثورة” التي قامت رغم إلحاح رئيس الجمهورية كميل شمعون على إنهائها بالقوة. وفي عام 1975، رفض رئيس الحكومة رشيد كرامي استعمال الجيش لإخماد حرب السنتين التي كانت في بدايتها، رغم إصرار رئيس الجمهورية سليمان فرنجيه على ذلك، ومعه غالبية القيادات المسيحية. ولا يعني ذلك أن الجيش كان بلا عمل أو بلا دور. فهو “قاتل” في جرود البقاع “الطفّار” ونجح في فرض الاستقرار، ولكن بعد أن مزج القوة بإجراءات اجتماعية مفيدة اقتصادياً نفّذتها الحكومة. وهو أيضاً نفّذ مهمات عدة بعد الطائف، كما أنه استعمل هيبته قبل حرب الـ1975 للمساعدة على فرض الأمن. وبعد هذه الحرب التي أدّت الى انقسامه منذ بدايتها، انشغلت السلطة المنبثقة من اتفاق الطائف بتقويته بعدما كان الرئيس الياس سركيس نجح جزئياً في اعادة بنائه. وساعدتها على ذلك سوريا المكلَّفة عربياً ودولياً مساعدة اللبنانيين على إنهاء الحروب بينهم وعندهم وعلى بناء دولتهم وفقاً لاتفاق الطائف. ومعروف في أثناء هذه المرحلة ان الدور الأكبر أمنياً وعسكرياً كان للجيش السوري الموجود في البلاد. وكان الجيش رديفاً له.
ماذا يعني ذلك؟ يعني أن تلافي كان استعمال الجيش في الداخل عام 1958 لاقتناع قائده شهاب بوجود انقسام إسلامي – مسيحي في البلاد وإن كامناً. وكان أيضاً لحرصه على وحدته. أما الكلام الذي يُقال عن أن دافعه الأبرز للتلافي المذكور كان الطموح الى رئاسة الجمهورية فغير دقيق. لكن شهاب لم يثر الأمر علانية، الأمر الذي أبقى للجيش هيبة الوحدة، ومكّنه لاحقاً بعد انتهاء الثورة من القيام بدور فاعل لفرض الأمن والاستقرار.
ويعني أيضاً أن تلافي استعماله عام 1975 كان لخوف عليه من الانقسام طائفياً، وهذا ما عبّر عنه الراحل كرامي مباشرة ومداورة، وما حاول إنكاره الراحل فرنجيه وحلفاؤه المسيحيون. لكنه يعني في الوقت نفسه أن تلافي الاستعمال كان لاقتناع قسم مهم من مسلمي لبنان بأن الجيش “مسيحي الهوى”، وأن استعماله سيوقع “ثورتهم” في الخسارة ويحول دون تحقيق مطالبهم الكثيرة، وخصوصاً المتعلقة منها بتعزيز مشاركتهم في السلطة والحكم. ومعروف هنا الدور الذي لعبه الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان في تعزيز اقتناع المسلمين “بمسيحية” الجيش، وذلك لدفعهم الى اللجوء إليه حماية لأنفسهم وتمكيناً لهم من تحقيق مطالبهم الداخلية. علماً أنهم لم ينتبهوا إلا متأخرين جداً لأهدافه غير اللبنانية. وعلماً أيضاً أن الانصاف يقتضي التساؤل اذا كان المسيحيون انتبهوا الى أنهم قدَّموا بوسائل عدة الذرائع التي نجح بواسطتها الفلسطينيون في استمالة المسلمين. وعلماً أخيراً أن الانقسام المسيحي – المسلم كان سابقاً للوجود الفلسطيني المدني ثم المسلّح في لبنان. لكنه كان نائماً.
هل يعني أن قيام الجيش اليوم ولأول مرة بمهماته الأساسية أن العوامل التي حالت دون ذلك ماضياً قد زالت؟
بالطبع لا. والحال الانقسامية في البلاد تحوّلت تشرذماً وصراعات بين المسيحيين أنفسهم وبين المسلمين أنفسهم وخصوصاً بين السنّة والشيعة. والدولة التي كانت قائمة قبل الحرب زالت مع الأخيرة. والدولة الأخرى التي تأسست بعد انتهائها لم تعد قائمة إلا في الشكل. فمؤسساتها السياسية مشلولة، وشعبها صار شعوباً، كل منها يرتبط بخارج ما أو يحاول أن يرتبط بخارج ما ليحمي نفسه. والخارج على تنوّعه له مشروعاته غير المتوافقة بالضرورة مع مصلحة لبنان وشعوبه. هذه الحال جعلت الجيش ينفّذ مهماته بالتراضي. والتراضي يعني ضمناً عجزاً عن استعمال القوة أو خوفاً من استعمالها على وحدته أو على السلم الأهلي. لكنه أخيراً اتخذ القرار بالمبادرة والهجوم لأن اخطار الخارج المسلّح “الغريب” عن قيم الاسلام والمسيحيّة على وحدته، بل على أمن البلاد ووحدتها، صارت أكبر من السابق. وهو يحاول الإفادة من “إجماع” داخلي هشّ على تحركه حقَّقته مخاوف مشتركة بين شعوبه. ونجاح الجيش في مهمته يقتضي تحوّل الاجماع حقيقياً وصادقاً ومعه الالتفاف وليس فقط إعلامياً، وهو ليس كذلك حتى الآن. وسيبقى خطأ شائعاً ما لم تنتهِ مرحلة الخوف المتبادل بين السنّة والشيعة، وخوف المسيحيين من الاثنين، وما لم يتوصلوا كلهم الى اقتناع بإقامة دولة جدية وفاعلة تساوي بينهم.
هل من أخطاء شائعة أخرى في الأوضاع اللبنانية؟