كل ثورة تليها ثورة مضادة. الثورة العربية التي بدأت قبل بداية العام 2011 جمعت المتناقضات ضدها. تحالف هؤلاء؛ وإن كان حلفاً غير معلن، لمحاربة الإرهاب، أو بالأحرى ما يعتبرونه إرهاباً. ليس هناك تعريف واضح، أو غير واضح للإرهاب. منه ما هو جريمة، وهذا ما يعاقب عليه القانون. أما ما عدا ذلك فهو عمل سياسي مناوئ للسلطة. تعتبر السلطات في جميع أنحاء العالم، الأفعال والسلوكيات المعارضة لها إرهاباً. في البلدان «الديموقراطية العريقة» لا تجرؤ الحكومات على الأخذ بهذا الاعتبار، لكنها هي نفسها تنضم إلى البلدان الأخرى في محاربة كل عمل مناوئ لا تنص على جرميته القوانين عندها. وهذه «الديموقراطيات العريقة» تعتبر الثورات أعمالاً إرهابية إذ هي تحدث خللاً في النظام العالمي. تتقيد بالقانون في بلادها، وتحارب الإرهاب خارج حدودها. فالإرهاب يتيح لها قتل المناوئين على الموقع ومن دون محاكمة؛ فكأنها محاكم عرفية.
ينشأ عن ذلك حلف جهنمي عالمي ضد الإرهاب. تحسبها حرباً عالمية. وهناك من يعتبرها الحرب العالمية الرابعة، بعد الأولى والثانية والباردة. أما في الديموقراطيات غير العريقة، وهذه تشكل معظم بلدان العالم (وهي في حقيقة الأمر غير ديموقراطية)، فإن محاربة الإرهاب أشبه بالحرب الأهلية، أو يكاد الأمر يكون ذلك فعلاً. تتحالف الديموقراطيات العريقة مع أنظمة الاستبداد لمحاربة الإرهاب. ما يجمع بينهما هو حالة الإنكار لإرادة الشعوب. يخافون الشعوب وإرادتها فيعيدون تنظيم العلاقة في ما بينهم من أجل محاربة هذه الإرادة. الاستبداد يرى في إرادة الشعوب تهديداً للسلطة. والإمبراطورية ترى فيه تهديداً للنظام العالمي. المصيبة تجمعهما.
ينكرون على الثورة فكرها وبرنامجها. نعم ليس للثورة فكر وبرنامج لأن أنظمة الاستبداد، على مدى زمن طويل، اضطهدت المفكرين والمثقفين وأصحاب الرأي. لم يبق قيد التداول إلا «وعّاظ السلاطين» كما سماهم د.علي الوردي، المؤرخ والمفكر العراقي العظيم. في عصور الازدهار الثقافي العربي كان الخلفاء والسلاطين يرعون الأفكار والمفكرين. السائد في عصرنا الراهن هو اضطهاد هؤلاء وسجنهم. رأينا على مدى عشرات السنين مفكرين أودعوا السجن لرأي قالوه، لا لإرهاب ارتكبوه. وكانت فترات السجن تطول أحياناً لمدة عشرين سنة من دون محاكمة. وشرط الإفراج عن المحكوم هو عدم العودة إلى الأفكار «الهدّامة».
إنكار إرادة الشعوب ينتهي بأصحابه إلى إنكار الشعوب ذاتها. لا يبقى من الشعب إلا المصفقون والمزمرون على أعتاب السلطة وفي أروقة الاحتفالات. الشعب الذي لا يصفق ولا يهتف بالأهازيج يعتبر مريضاً أو في حالة تخلّف تستحق المعالجة. يحتاج المجتمع لدى الإمبراطورية والاستبداد إلى إعادة هيكلة لنشر وعي جديد يكون صدى لوعي السلطة والنظام العالمي؛ هؤلاء يضطرهما الشعب وجماهير الشعب في الميادين وفي غيرها إلى إعادة ترتيب العلاقة بينهما. تعيد الإمبراطورية تشكيل نفسها كلما وجدت صعوبة في السيطرة على إرادة الشعوب. ولا ترى أداة أفضل لإعادة بسط السيطرة سوى أنظمة الاستبداد وخير أنظمة، في هذا السبيل، هي الأنظمة العسكرية.
خطاب الاستبداد (والحلفاء الإمبرياليين) هو خطاب الإدانة، واتهام الشعوب بالتخلف والافتقار إلى «الفكر» وإلى البرامج. ألا يستحق الوجود إلا من كان من ذوي الأفكار المطابقة لأفكار السلطان؟ ألا يستحق العيش الكريم هذا الكمّ الهائل من الجماهير التي تطالب بالخبز والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية؟ إن خطاب «داعش» الذي ينكر إرادة الشعب باسم الدين والشريعة، هو الوجه الآخر لخطاب السلطة التي تنكر إرادة الشعب الذي لا يتناسب مع «فكرها». وعلى كل حال، لم نرَ كثيراً من المفكرين «وعّاظ السلاطين» الذين ينتجون الأفكار الجديدة المستنيرة. هم ينتجون الشعر مدحاً وهجاءً، حتى لنكاد نكره كل أنواع الشعر بسبب هؤلاء.
التطرف الديني ظاهرة عالمية؛ خطابها ناتج عن عهود التهميش الاجتماعي والاقتصادي، وحتى الطائفي؛ هو تعبير عن شعور بالتهميش والإبادة والإنكار لدى أهل السلطة الذين كثر نهبهم خاصة في أيام الانفتاح وانتشار الليبرالية الجديدة، وعودة الأنظمة إلى مغازلة الإسلاميين والتحالف معهم مع صعود الليبرالية الجديدة، منذ أيام السادات. والظاهرة معممة على جميع الأقطار العربية. تشكل الحكومات العربية منظومة واحدة في إطار نظام عالمي معولم موحد، رأينا المختلفين منهم يتفقون في الفترة الأخيرة. وبين العرب من لم يتفقوا مع بعضهم، لكنهم اتفقوا مع أسيادهم العالميين. لولا هذا التحالف العالمي باسم الإرهاب لم تكن إسرائيل لتتجرأ على ارتكاب مجزرة بشعة باسم محاربة الإرهاب أيضاً. الحرب التي تشن في غزة الآن هي دعم للثورة المضادة إن لم تكن جزءاً منها.
«داعش» حالة إسلامية متطرفة وهي ليست تعبيراً عن حالة اجتماعية بقدر ما هي تعبير سياسي عن حاضنة سياسية هي منظومة الاستبداد العربية. لم يتصلب مجتمعنا في القرن التاسع وفي ما يليه وفي ما سبقه، بل استقبل الغرب برحرحة ملحوظة، ورأى الفرق بين التقدم والتخلف، ورأى إمكانية التقدم في علاقة سوية مع الغرب. هذه سيرة الجبري ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي. وكان بالإمكان استمرار هذا الخط وتطويره إلى ما هو أكثر استنارة وعقلانية لولا ظروف الاستبداد الطويلة الأمد التي قصمت ظهر هذا التطور.
وإسرائيل هذه، ألا تحسبونها جزءاً مكملاً لمنظومة الاستبداد ولو من الخارج؟ وهل كان ممكناً لإسرائيل الاستمرار والبقاء لولا هشاشة أنظمة الاستبداد وهزائمها المتتالية.
ليس الصراع بين هذا الفريق وذاك من المشاركين في الحرب الأهلية بأفكار جامدة ومتصلبة ومتطرفة، بل هو بين هذه الأفكار المنشودة جميعها من جهة والسياسة من جهة أخرى. تتطلب السياسة خوض الحوار والنقاش، وقبل كل شيء قبول التسوية وقبول رأي الآخر على أنه جزء من المجتمع والحقيقة. أما تهميش الآخر فهو لا يقود إلا إلى التصلب والتطرف وخطاب «داعش» الذي يتسرب إلى أروقة السلطة، ولو بأشكال وتعابير أخرى. قليل من السياسة والحوار والتسوية يقود إلى ذوبان «داعش» وانتفاء الحاجة إليها لدى من أعمت بصائرهم الإيديولوجية الطائفية. الصراع بين نوعين من التشنج، أحدهما ناتج عن تركيبة سلطة تؤدي إلى التهميش؛ وثانيهما ناتج عن هذا التهميش ذاته.
الصراع يدور بين أطراف الثورة المضادة. شرشحة ذلك الفريق تعكس أناقة هذا الفريق.
لا نريد أن نعتقد أن شعوبنا من دون إرادة. ولا نعتقد أن هذه الإرادة تكسرها الحرب العالمية على الإرهاب.