Site icon IMLebanon

الانتحار.. أقصى انتفاخ الذات

الانتحاري يائس من هذا العالم يأساً مطلقاً؛ يواجهه وحده. ليس يهمه تغيير العالم بل تسجيل اعتراض ولو أدى ذلك إلى موت آخرين وتدمير أبنية ومقتنيات. مهما كان عدد المخططين المساعدين في العملية، ومهما كان عدد الممولين والذين شاركوا في خلق المناخ النفسي الملائم، إلا أن الانتحاري يبقى وحيداً إذ قرر قطع كل علاقة بهذا العالم. ربما كان يطمع في عالم آخر، إلا انه قرر الخروج من هذا العالم.

الانتحاري لم يعد يجد في هذه الأرض ما يرضيه. المواجهة بينه وبين العالم حاسمة. قرر ان يرفض العالم كلياً بقتل نفسه، ولو كان ذلك مخالفاً لكل القوانين والشرائع. انسحب الهيبيون من المجتمع، لكنهم لم ينسحبوا من الحياة؛ تمتعوا بمباهج الموسيقى والجنس والمخدرات. ينسحب الزهاد من المجتمع إلى التقشف، لكنهم ينتظرون مرضاة الله في عالم آخر، وما يترتب على ذلك من مباهج من دون ان يضعوا حداً لحياتهم في هذا العالم. يميز الصوفيون أنفسهم عن المجتمع، لكنهم يرون في حلقات الذكر الخاصة بهم متعة يحققون عن طريقها الاتصال المباشر مع الذات الإلهية. المصابون بالتوحد ينسحبون عملياً وقسرياً من المجتمع، فيعيشون في عالم ذاتي مغلق، ولا يستجيبون لمبادرات الآخرين. الانتحاري مختلف عن كل هؤلاء وأمثالهم في أن قراره بقتل نفسه (وآخرين) حاسم مطلق.

ربما كان للمنتحر قضية؛ يعبر عنها أصحابه في معظم الأحيان. يحتقر قضيته كما يحتقر كل الناس الآخرين. يتسبب بموتهم تبعاً لموته هو لأن الحياة لا تعنيه. هو يعتبر نفسه أكبر من الحياة. ويعتبر الآخرين أصغر من ان يستحقوها. لا قيمة عنده للآخرين. لا قيمة إلا لذاته. يصنع بذاته ما يشاء، فكأنه الذات العليا المطلقة الخالقة لكل شيء. هو إرادة أخرى إلى جانب إرادة الخالق.

الانتحاري يواجه العالم، لكنه أقل شجاعة من العمل على تغييره. لا يستحق لقب مناضل. لا يفهم ان العالم متغير متحول، وان كثيرا مما حدث للطبيعة وللنظام الاجتماعي هو من فعل الإنسان، وأن هناك احتمالاً للتغيير في اتجاه الأفضل. هو بالأحرى لا يهمه هذا العالم؛ لا يهمه إلا أفكاره المزروعة في نفسه. وعندما لا تستطيع أفكاره تغيير العالم، فإنه يدمر ذاته. الانتفاخ الذاتي بلغ حده الأقصى فارتد عليه.

الانتحاري أناني. مريض بالأنانية؛ لا يرى إلا ذاته في هذا الكون، فيقرر معالجة الأمر بنفسه وحيداً، ويبرر الخروج من العالم بالقضاء على حياته. يظن ان ذلك يغير شيئاً، لكنه لا يفعل إلا ان يلحق الأذى بنفسه وبالآخرين. عمله ليس أقصى التضحيات في سبيل قضية، بل أقلها شأناً.

الانتحاري جبان يخاف التفكير وشقاء العقل. يخاف مواجهة العالم، يهرب من عذابات الواقع، يطلب جنة الآخرة، يبادل الحاضر بوعد غير مؤكد عن المستقبل. لكن انتفاخ الذات، وتأكده من الحقيقة التي يؤمن بها وحده (مع من ظن انهم أصحابه) يقودانه إلى التأكد من المغانم في الآخرة. هو يائس بائس ويريد الإعلان عن ذلك بحركة دراماتيكية. يهمه الإعلان والإعلام والضجة التي تثار من حوله. يناقض ذاته المنتفخة إذ لن يشهد شيئاً من ذلك بعد الرحيل.

الانتحاري وليد هذا المجتمع الاستهلاكي في ذروة تطوره. يستهلك ذاته. ليس لديه من أدوات الفكر ما يسمح له بفهم النظام الذي يفرض نفسه على العالم. علَّمه النظام ان يكون استهلاكياً لكل شيء، فانتهى إلى استهلاك الذات المنتفخة انتفاخاً أقصى. ربما كان أصولياً فتعلم ان أفكاره ومعتقداته أهم بكثير من الوقائع، ومن كل عالم الواقع. لا يرى إلا نفسه. تكبر نفسه وتنتفخ حتى تنفجر.

إذا كانت كثرة الانتحاريين تعبيراً عن حالة اجتماعية، عن «بيئة حاضنة» كما يقول البعض، فهي تعبر عن نزع السياسة من هذا المجتمع. مجتمع من دون سياسة هو مجتمع من دون دولة، والدولة مفهوم غائب عن الجميع، فهل يعني ذلك أن الانتحار مصير الكثرة منهم، وان المجتمع برمته ينتحر إذا لم ينشئ الدولة التي تناسبه

 إرادة العيش سوية، مع ما يتطلبه ذلك من تسويات وتراكمات، هي النقيض الحقيقي للمتفرد الانتحاري الذي لا يرى إلا ذاته.

الانتحاري حالة مرضية، لكن ظروفاً اجتماعية وبيئية يمكن ان تحوِّل المرض إلى وباء. عندما ينتشر المرض، ومن أي نوع، يسمى وباء. والأوضاع في مشرقنا العربي، في غياب السياسة وإرادة العيش سوية، وفي غياب معنى التراكم والدولة، يمكن ان تحوِّل الأمر إلى وباء؛ وذلك مع فقدان المناعة السياسية.

مجتمعاتنا العربية في حالة فوران كامل؛ حكامنا ينتابهم الهلع والخوف من شعوبهم، الحياة السياسية شبه معدومة. ليس الحوار أو النقاش أو التسوية على جدول أعمال النخب السياسية والثقافية. المناعة السياسية في أدنى نقاطها، خطاب الانتحار حل مكان السياسة، حتى ولو لم يحدث الانتحار عيناً.