Site icon IMLebanon

التفكير في أشكال المقاومة

ننحني احتراماً وتقديراً لشهداء غزة ولجرحاها وصمودها ومقاومتها ولكل نخلة وحجر فيها. المقاومة شرف عظيم لا تتحقق إنسانيتنا من دونه. لا نعرف متى وكيف وبأية شروط يتوقف العدوان الهمجي الذي يمثل إنكاراً لآدمية الشعب الفلسطيني من إسرائيل ومن الداعمين والمتسترين على جرائمها. يجب أن يتوقف العدوان فلا وجه للمقارنة بين آلامه على الشعب الفلسطيني وبين نتائج الرد عليه مهما كان الإنجاز السياسي العسكري مؤثراً. بعد سبعة عقود تقريباً يتكرر مشهد المجازر بالشعب الفلسطيني ولا تخسر الدولة العبرية من رصيد أصدقائها ولا تتعرض لأي مساءلة أو محاسبة. يتزايد رفضها للحل السياسي وللتسوية التاريخية وتبتلع المزيد من الأرض وتعبث بهوية فلسطين وشعبها.

ثمة حاجة للتفكير في هذه التجربة التاريخية والمتغيّرات التي أحاطت بها بدءاً من لحظة مشروع التحرير الكامل إلى لحظة البحث عن تسوية تتضاءل حظوظها ومكتسباتها أمام الوضع الدولي والانهيار العربي.

التفكير في «المقاومة» وليس خارجها ولكن بأية أشكال ووسائل وبأي جدول زمني للأولويات ولوقف التعدي المتزايد على الحقوق والإمعان في تحجيمها. ولنعترف بداية أن فكرة إزالة إسرائيل من الوجود كدولة عنصرية استيطانية أو إعادة صياغة هذا الوجود بالانسجام مع الحقوق العربية الأصلية مسألة دونها الحاجة إلى تغيير النظام الدولي. فهي ليست قوية بذاتها، وبالفعل تصبح «واهنة» إذا تخلى النظام الدولي عنها. كانت إسرائيل أكثر ضعفاً عسكرياً وسياسياً حين كانت فقط جزءاً من معسكر دولي وكان مشروعها التوسعي محل إدانة. لم ينجح العرب في استثمار تلك المرحلة وهم الآن أكثر قبولاً أو رضوخاً للمعادلات الجديدة. وإلى ذلك صاروا أكثر انشغالاً بمشكلات وجودهم بمعزل عن قضية فلسطين التي صارت أكثر فلسطينية. تصاعدت المقاومة منذ الانتفاضة الأولى عام 1987 وأصبحت أكثر تماهياً مع الأرض والشعب في الداخل وأكثر استقلالاً بقرارها.

لكن أسلوب النضال الذي ابتكرته بانتفاضة الحجارة استهلكته تسوية أوسلو عام 1993 وما حققته من تحرر من الوصايات العربية فقدته مع الانقسامات الداخلية وعودة بعض الأطراف إلى الرهان على قوى إقليمية في معارضة التسوية وسوء إدارة المقاومة السياسية. وما كان «نعمة» في زوال الاحتلال عن «غزة» وفي نشوء الكيان السياسي في «رام الله» أصبح «نقمة» بالمنافسة غير العقلانية وغير المرتكزة إلى وحدة الأهداف والتصورات. وبالطبع بدأنا نشهد «مأزقاً» فلسطينياً في تعارض الرؤيتين «التفاوضية والقتالية» كما في انعزال النظام العربي وانحطاطه حتى صار يزعم أنه يرتضي ما يرتضيه الفلسطينيون لأنفسهم، وهو بذلك يعلن تبرؤه من قضية فلسطين ومن أمنه هو بالذات في مواجهة تحديات الدولة العبرية. لذلك تتجرأ إسرائيل على امتهان الحقوق وعلى استباحة الوجود الإنساني وفي التنصل من القرارات الدولية ومن الاتفاقات وتتغوّل في التوسع بالاستيطان.

إلى أين من هنا بعد هذا الفصل الدموي التدميري لغزة واستنزاف الحياة المدنية كلها والترهيب والإذلال اللذين لم يوقفهما الصمود والرد على ما فيه من دلالات معنوية على أمن إسرائيل واستقرارها؟

أما وقد تهالكت «السلطة» الفلسطينية في المفاوضات العبثية ولم تستطع «سلطة غزة» أن تتحول إلى مرجعية وطنية شاملة أو قاعدة للتحرير ووقعت في مطب النزاعات الإقليمية، فلا بد من وقفة وطنية فلسطينية تعيد هيكلة القيادة الموحدة ومشروعها. هذه مسؤولية تتزايد مع حجم التضحيات وتلح مع ضيق الأفق لإحداث اختراق في جدار التصلب الإسرائيلي. ولا بد من التفكير بوسائل نضال مختلفة تردم الفجوة بين التضحيات وضعف المردود السياسي. ومن نافل القول إن تعزيز لحمة الشعب الفلسطيني وتضامنه وتطوره المدني وتقدمه الاجتماعي وبناء عناصر حمايته وتشبثه بأرضه وتقوية فعاليته وحضوره في مختلف الميادين والمستويات هي مرتكزات ضرورية لأي عمل مقاوم سياسي أو عسكري.

فلا يعقل أن لا تتوافر لهذا الشعب شروط الحياة الكريمة من أي وجه، وأن يتحول إلى ما يشبه كتلة من المنذورين للقتال والاستشهاد والأسر والتهجير ومعاناة فقدان مقوّمات الحياة العادية.