Site icon IMLebanon

«التمثيل الحقيقي» و«كنتنة» الانتخاب

ردود الفعل التي ظهرت رسمياً على «المبادرة العونية»، تركزت في معظمها حول توقيت طرحها «زمن خلو سدة الرئاسة» متجاهلة أي موقف تجاه «الانقلاب الدستوري» الذي يعشش في ثناياها، حتى أن بعض الذين أرادوا مقاربتها مع الدستور أفتوا بأن أي تعديل دستوري اليوم مستحيل لأن مجلس النواب في غير انعقاد عادي، متجاهلين أن مشروع تعديل تتقدم به «الحكومة ـ الرئيسة» جائز في أي وقت، وبذلك لم يكسبهم اجتهادهم هذا لا أجراً ولا أجرين.

ويبدو واضحاً من ردة الفعل هذه، ان الذين عارضوا المبادرة يتوافقون ضمناً حول تعديلاتها الدستورية عندما تجنبوا رشقها حتى بـ«زر ورد». فماذا تعني تلك التعديلات المطلوبة على الصعيد الدستوري لتنفيذ بندها الأول المتعلق بانتخابات رئاسية دونية تكون محصورة بالمنتخبين من طائفة رئيس الجمهورية، يتأهل بنتيجتها المرشحان اللذان ينالان أكثرية الأصوات لخوض انتخابات محصورة بهما على مستوى لبنان كله؟

في الدستور نصت المادة السابعة على أن «اللبنانيين سواء لدى القانون، وهم يتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية». كما ان المجلس الدستوري في إحدى مطالعاته البارزة التي أبطل فيها قانون انتخابات نيابية استند، في ما استند إليه، إلى ضرورة ان يكون للصوت الانتخابي القيمة ذاتها للجميع. وهذا ما لا تأخذ به المبادرة العونية عندما تولى الناخب المنتمي لطائفة رئيس الجمهورية الحق بالانتخاب مرتين. مرة في الدورة التأهيلية المحصورة بهم ومرة بالمشاركة في انتخاب لبنان على مستوى لبنان كله. فهل انتماء الرئيس الطائفي يمكن ان يصادر حق اللبنانيين من غير طائفة الرئيس باختيار اسم من غير المرشحين المفروضين في دورة التأهيل الأولى؟ ألا يمكن القول إن تحريم اختيار نصف اللبنانيين وأكثر تسمية شخص آخر من بين المنتمين لطائفة الرئيس، التي تعجّ بالكفاءات والقدرات، فيه شيء من الاستهانة بهذا «النصف وأكثر»؟

إن تبرير هذه السقطة المذلّة للآخرين التي اقترحتها المبادرة يقتصر على الرغبة في أن يكون التمثيل الطائفي في سدة الرئاسة صحيحاً. والسؤال هنا هو: هل من رئيس جمهورية قد تم انتخابه من أكثرية نيابية لا تتشكل فيها أكثرية نيابية من طائفة الرئيس؟ فإذا كان الأمر غير وارد تاريخياً فإن الذين هم من غير طائفة الرئيس ليسوا هم المسؤولين، ولنقل وحدهم على الأقل، عن عدم صحة التمثيل الرئاسي المشكو منه في المبادرة.

والأهم من هذا ما يمكن تسجيله على المبادرة في تفهمها الخاطئ لموقع رئيس الجمهورية ودوره. فرئيس الجمهورية، كما رسم الدستور صورته، هو «رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن»، كذلك فإن أتى من طائفة محددة بموجب الصفة والميثاق، إلا انه عندما يطأ قصر بعبدا يستبدل الدستور «طائفته» لتصبح «الطائفة اللبنانية»، فكيف يمكن أن يكون رئيس بمواصفات الدستور عندما يشترط لانتخابه أن يحافظ على مصلحة الطائفة التي ينتمي إليها من دون الطوائف الأخرى. لذلك فإن الرئيس المطلوب الذي يستحق تعديل الدستور إذا ما اقتضى الأمر، هو الرئيس الذي يلتزم بمصالح جميع اللبنانيين وطوائفهم ومذاهبهم وفق ما تسمح به المواطنية والوطن، وقد تكون الطريق إلى هذا في تعديل ينتخب منه الرئيس وفق المرحلة الثانية من الانتخاب التي جاءت بها المبادرة، أي من كل لبنان، ولكن أولاً من دون مرحلة أولى أو تأهيلية وغير ذلك من التسميات، وهذا وإن كان يبدو متعارضاً مع قواعد النظام البرلماني الديموقراطي في الوهلة الأولى إلا أنه غير ذلك في الحقيقة، فهذا النظام عبر تاريخه الطويل أفسح في المجال لتعديل نفسه كي يضمن استمراريته، وكانت خطوته الأولى على هذا الصعيد انتخاب الرئيس من الشعب مباشرة، لكن من جميع المواطنين على غرار ما حدث في فرنسا مثلاً، فالأمر لا يستحق عقوقاً وإن لم تبد الحنان فكيف إذا كانت حنونة؟ الانتخابات من الشعب كله استطاعت المحافظة على كيانيتها ووحدتها فماذا عن الدول، والأمثلة كثيرة، التي أقدمت على «كنتنة» انتخاباتها؟! هل بقيت واحدة موحدة أرضاً وشعباً ومؤسسات، كما جاء في دستورنا، أم انه حتى اسمها قد تغير؟

ان ما جاء في المبادرة، إنْ لجهة انتخاب رئيس الجمهورية أم لجهة الانتخابات الأخرى، كان طرحاً عكس سير الدستور. ففي المقدمة منه تحددت العناوين الرئيسة لدولتنا، وهذا ما يلزم الجميع أن يكون أي إجراء قانوني معبراً عن تلك العناوين، أو على الأقل لا يتعارض معها. فالدستور نص على أن «إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي»، ولم يكتف بذلك إذ فرض وألزم المسؤولين وفي مقدمتهم النواب على العمل من أجله بنصه على أن «لا فرز للشعب على أساس أي انتماء كان ولا تجزئة ولا تقسيم ولا توطين». فهل ما جاء في المبادرة بما تفضّلت به حول الانتخاب يتوافق مع تلك النصوص؟ أو هل لا يتعارض معها على الأقل إن لم يكن خطوة على طريق تحقيقها؟ فالمنادي بالدستور وتطبيق القوانين عليه ان يلتزم لا أن يختار ما يلتزم به وما لا يروق لمصلحته.

إن التمثيل الصحيح، لأي طائفة وفي أي انتخابات، حددته المادة 24 ـ دستور بنصها على التساوي بين المسيحيين والمسلمين في عدد المقاعد النيابية ونسبياً بين «الطوائف» لكل منهما (المذاهب) والمادة 49 ـ دستور التي حدّدت إجراءات انتخاب رئيس الجمهورية وشروطها، وكذلك صيغة 1943 والميثاق الوطني اللذين حددا الطائفة التي يأتي منها رئيس الجمهورية. فليس صحيحاً أن التمثيل الصحيح يكون بـ«كنتنة» الانتخاب، فالرؤساء الذين عرفهم لبنان جاؤوا بإرادة أكثر من طائفة واحدة ومسؤولية مشتركة بين الجميع. فإذا كان هدف المبادرة إلغاء دور طوائف من الاستحقاق الرئاسي، فإن المساواة تقتضي عندها إلغاء دور البقية التي شاركت في الاختيار، فتجير الدور كله لـ«الإرادات المستترة» التي كانت وما زالت وستبقى المنتخب الوحيد، إلى ان تصبح عملية الانتخابات على مستوى لبنان كله يشارك فيها الجميع.