عشية الفراغ الرئاسي الأول عام 1988 اجتمع المرشحون الحاليّون الثلاث للانتخابات الرئاسيّة في لبنان ..كلّ من الرئيس أمين الجميل والعماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع مع آخرين في قصر بعبدا .. وهذا ما سمّي باجتماع ربع الساعة الأخير.. تمّ فيه التوافق على تسمية العماد ميشال عون رئيساً للحكومة العسكرية التي أُنيطت بها صلاحيات رئاسة الجمهورية..
جاء هذا الاجتماع بعد أيام طوال للنخبة المسيحية بقيادة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير من أجل تأمين الاستحقاق الرئاسي بعدما فشلت الدعوة الأولى للرئيس حسين الحسيني إلى إنتخاب الرئيس سليمان فرنجية.. إذ قطعت الطرقات ولم يستطع النواب الحضور إلى البرلمان في قصر منصور آنذاك..
عملت إجتماعات بكركي على ما عُرف بقائمة «الميشالات»..ميشال خوري وميشال إده وميشال عون وآخرين .. وكان حينها الموفد الاميركي ريتشارد مورفي يتنقّل بين دمشق وبيروت.. وكانت النتيجة ما عُرف باتفاق «مورفي – الأسد».. أي مخايل الضاهر أو الفوضى.. رفض الموارنة هذا الاتفاق.. ولم تكن المرّة الأولى التي يتصدّون فيها للرغبات الأميركية.. منذ مورفي الأوّل في العام 1958 ثم لقاء فرنجية – كسينجر في مطار رياق عام 1973 وكان من نتائجه 13 نيسان 1975 وما تبعها.. وما نسب للأميركيين آنذاك بأنّ المسيحيّن فائض بشري لا أكثر ولا أقل.. وما نسب إليهم أيضاً في العام 76 بأنّ السفن تنتظرهم في عرض البحر للهجرة إلى كندا .. في حين أننا نرى بالوجود المسيحي في لبنان قيمة تأسيسية للبنان الكيان والدولة والمجتمع.. إلاّ أنّ قصّة الموارنة والأميركيين في لبنان طويلة وكثيرة المواجهات والتداعيات..
أعتقدُ بأن المرشحين الثلاثة.. الرئيس أمين الجميل والعماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع.. يعرفون أكثر من غيرهم ما معنى أن تقول»لا» للأميركي.. فلقد خبَروها بعدما رفض الرئيس الجميّل التوقيع على اتفاق 17 أيار.. وما قاله وزير خارجية أميركا جورج شولتس بأننا ذاهبون إلى أميركا والجميع يعرف أرقام هواتفنا.. وكان ما كان من إنسحاب القوات الأميركية من بيروت عبر شاطئ الأوزاعي في 6 شباط 1984 .. وما تلاها من انتفاضات وحروب وجنيف ولوزان.. وقيل حينها بأنّ لبنان خطأ جغرافي يجب تصحيحه.. ويعرف المرشّحون الثلاثة ما كانت عليه المنطقة عشية 23 أيلول 1988.. أي بعدما استطاع جورج بوش الأب الذي كان نائباً للرئيس الأميركي آنذاك أن يؤمِّن ترشيحه لدى الحزب الجمهوري لرئاسة الجمهورية في أميركا.. بعد ضرباته في باناما ونجاحه بإقناع إيران بالقبول بالقرار الدولي 598 الذي أوقف الحرب العراقيّة الإيرانية.. وبدأ يتحضر لتحقيق حلم رفيقَيْه.. الرئيس نيسكون وهنري كسينجر.. في العام 1973 بالسيطرة التامة على منابع النفط مباشرةً..
إنّ رّبع الساعة الأخير بين المرشحين الثلاثة في قصر بعبدا أسّست للفراغ الرئاسي الأول في تاريخ الرئاسة اللبنانية.. لأنّ هذا الاستحقاق بقي مصاناً وفي موعده رغم كل الحروب والأهوال التي عرفها لبنان منذ العام 1943 حتى العام 1988.. عوقب الثلاثة إذ سمحت أميركا لسوريا بضرب قصر بعبدا ونفي العماد عون وكذلك الرئيس أمين الجميل وبعدها سُجِنَ الدكتور سمير جعجع.. لأنهم قالوا «لا» لمورفي واختاروا الفوضى على الإتفاق السوري الأميركي.. هذا الإتفاق الذي أصبح أمراً واقعاً بعد تسلّم جورج بوش الأب رئاسة الجمهورية في أميركا عام 1989 وقيامه بحرب عاصفة الصحراء بمشاركة سوريا لتحرير الكويت والسيطرة المباشرة على منابع النفط.. وكان ما كان.. وعادت سوريا الى لبنان من الباب العريض وبغطاء أميركي كبير.. وكانت المقاطعة للإنتخابات النيابية عام 1992.. وبدأت مرحلة ما عُرف بالإحباط الماروني.. وواجهت الكنيسة المارونية منفردةً.. برئاسة غبطة البطريرك مار نصرالله بطرس صفير.. كل تلك التحديات وحفظت الوجود المسيحي الإجتماعي والسياسي في لبنان.. واستطاعت أن تستعيد المبادرة بعد النداء الأول للبطاركة والمطارنة الموارنة عام 2000 .. وكانت الزيارة الشهيرة لغبطة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير الى أميركا والاستقبال الشعبي الكبير له عند عودته والذي بلغ مئة ألف لبناني في العام 2001..
انطلق بعد هذه الزيارة لقاء قرنة شهوان الذي ساهم بإعادة الحضور المسيحي إلى المشهد الوطني وملء الفراغ السياسي الذي أحدثه نفي الجميّل وعون وسجن جعجع.. ويعدّ لقاء قرنة شهوان برعاية غبطة البطريرك صفير الرافعة الحقيقية لكلّ ما نشهده الآن من حضور وطني مسيحي سياسي.. رغم أنّ كلّ أركانه هُمِّشوا الى حد بعيد باستثناء حضور متواضع رغم دورهم الكبير في مواجهة التمديد وصدور القرار 1559 ولقاء البريستول و14 آذار 2005.. وما عرف بثورة الإستقلال الثاني .. حيث تعرّضت المناطق المسيحية للتّفجيرات .. واغتيل عدد كبير من القيادات المسيحية كان معظمهم من اللبنانيين الأرثوذكس من سمير قصير وجبران التويني وجورج حاوي .. ومحاولة إغتيال الياس المر .. ومن الموارنة أنطوان غانم وبيار الجميل .. ومحاولة إغتيال الإعلامية مي شدياق .. إلاّ أنّ اللبنانيين لم يدركوا أيضاً مهمة السفير الأميركي جيفري فيلتمان آنذاك الذي ملأ فراغ الإنسحاب السوري .. واتّخذ من بيروت منصّة للتّفاوض مع إيران حول التّخصيب النووي والإنسحاب الأميركي من العراق .. فكان الفراغ الثاني عشية 24 تشرين الثاني 2007 وغادر الرئيس لحود تاركاً قصر بعبدا للفراغ مرة أخرى .. حتى انتخاب الرئيس ميشال سليمان بعد أحداث 7 أيار 2008 ..
بمناسبة الفصح المجيد وقيامة السيد المسيح عليه السلام .. دعا الرئيس نبيه بري إلى جلسة نيابية في 23 نيسان 2014 لانتخاب رئيس للجمهورية .. تلبيةً لرغبة نيافة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي الذي جعل من المهلة الدستورية لانتخاب رئيس الجمهورية بدءاً من 25 آذار قضية وطنية بامتياز .. وأطلق حيوية سياسية عبر المذكرة الوطنية وإطلالاته الإعلامية وكذلك في عظاته الدورية التي طالب فيها الرئيس بري بالدعوة الى جلسات إنتخاب رئيس للبلاد..
تنعقد جلسة 23 نيسان تحت سقف المرشحين الثلاثة .. وهم يشبهون إلى حدّ بعيد رموز الحلف الثلاثي في انتخابات العام 1970 .. الرئيس كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل والعميد ريمون إدّة .. والذين لم يستطيعوا آنذاك إيصال أحدهم إلى الرئاسة .. فكان الذهاب باتّجاه تكتل الوسط وانتخاب سليمان فرنجية وكان ما كان .. فإمّا أن تكون جلسة 23 نيسان الجلسة الأولى لانتخاب رئيس للجمهورية ضمن المهلة الدستورية قبل 25 أيّار وعدم الوقوع في الفراغ مرّة ثالثة.. أو القوْل «لا» لأميركا.. وخصوصاً أنّ السفير الأميركي ديفيد هيل يتنقّل ليل نهار بين السياسيين الناخبين والمرشحين.. والجميع يعرف ماذا يريد الأميركيّون..
وبذلك يكون استحقاق الرئاسة مرّة أخرى .. عشية قيامة السيد المسيح عليه السلام .. بين المرشحين الثلاثةالرئيس الجميّل والعماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع.. فهل يجتمع الثلاثة على قيامة لبنان أم على صناعة الفراغ مرّة أخرى؟..