يعيش اللبنانيون على إيقاع 25 أيار، لكن التحرك الإقليمي والدولي لا يأخذ في الاعتبار هذا الموعد. جلّ ما يهم الدول المعنية هو حفظ الاستقرار الأمني
رغم الحركة السياسية الكثيفة لإجراء الانتخابات الرئاسية قبل 25 أيار، باتت معظم القوى السياسية على اقتناع بأن لبنان مقبل على فراغ حتمي، وأن ما يجري اليوم ليس إلا من باب الضرورات الشكلية فحسب لإنقاذ ماء وجه اللبنانيين تجاه الاستحقاق. وكل ما عدا ذلك دوران في حلقة مفرغة، لأن التحرك الداخلي يجري على إيقاع، والحركة الإقليمية والدولية في شأن الاستحقاق الرئاسي تجري على إيقاع آخر، ربطاً بما يجري في المنطقة. والإيقاعان لا يلتقيان أبداً.
لكن المفارقة تكمن في هذا الكم من الكلام التحذيري حالياً من الفراغ، والاندفاعات المسيحية المفاجئة لإجراء الانتخابات، في حين أن المسار المسيحي واللبناني وصولاً الى الإقليمي، كما كانت حاله منذ أشهر، لم يكن ليؤدي إلا الى هذه النهاية الحتمية والحزينة المتمثلة في خروج رئيس الجمهورية من قصر بعبدا من دون خلف. وإلا فما معنى تمسك معظم القوى السياسية بالدخول الى حكومة، يفترض أن عمرها محدود، لو لم تكن مؤشراً على أنها ستتسلم إدارة البلاد في مرحلة الفراغ.
منذ أشهر والعماد ميشال عون يعرف في قرارة نفسه أنه لن يصل الى قصر بعبدا. فمهما كابر العونيون، وحاولوا تزيين مفاوضاتهم وغسل القلوب بينهم وبين المستقبل، برعايات إقليمية وكنسية، فإنه لا أحد من المستقبليين ينسى كلمات كثيرة قيلت في حقهم. وبدل أن يبادر عون في اتجاه المستقبل، ربما كان يفترض أن يذهب في اتجاه مبادرات داخل الصف المسيحي أولاً لإنقاذ الاستحقاق، بدل أن ينصحه الرئيس سعد الحريري بذلك. ويعرف الدكتور سمير جعجع أنه لن يصبح أيضاً رئيساً للجمهورية، ولو حصل على أصوات قوى 14 آذار كلها، حين يكون هناك فريق سياسي لا يزال يرفض وجوده أساساً كطرف سياسي، فكيف الحال بفكرة ترشيحه.
ومنذ أشهر أيضاً يعرف الرئيس ميشال سليمان أنه لا يمكن أن يُمدّد له، في وقت قطع فيه كل الجسور مع حزب الله وأطراف أخرى، ويعرف أيضاً، في قرارة نفسه، أنه مهما أطنب له البعض اليوم في المديح، فإن قوى 14 آذار لم تغفر بعد له تأجيل الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة عام 2011.
الفراغ ضرورة إقليمية أكثر مما هو نتيجة
فشل اللبنانيين في الاتفاق على رئيس جديد
ويعرف البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي، أو لا يعرف، أن أحداً لم يسأل البطريركية عن رأيها، بعدما أدخلت الموارنة ولبنان في أزمة القانون الأرثوذكسي وراكمت كمية من الأخطاء، وفشلت في إنتاج قانون للانتخاب وعدم إجراء الانتخابات النيابية وغيرها من الملفات السياسية.
منذ أشهر والموارنة يعرفون أن لا كلمة لهم في الاستحقاق، والأهم أن لا كلمة حالياً للبنان أيضاً فيه، لأن كلمة السر الاقليمية لم تصل بعد لانتخاب رئيس. وما وصل حتى الآن هو إشارات عن الفراغ فقط، وأن الحركة الإقليمية والدولية لا تخضع لضغط 25 أيار.
ففي جوجلة سياسية لتطورات الأيام الأخيرة، واللقاءات التي تعقد بين بيروت وعواصم معنية، فإن الفراغ اليوم أصبح ضرورة بالمعنى الإقليمي أكثر مما هو محصلة لفشل اللبنانيين في الاتفاق على رئيس جديد. والضرورة بهذا المعنى تعني الحاجة الى وقت إضافي من أجل إخراج وتبيان نوع التسوية الإقليمية التي سينتج من جرائها ترتيب الأوضاع في دول التقاطع السنّي ــــ الشيعي الإقليمي، أي العراق وسوريا ولبنان.
كان واضحاً منذ زيارة الرئيس الأميركي باراك أوباما للسعودية أن ثمة نزعة أميركية جديدة لإقامة توازن إقليمي بين السعودية وإيران، في رعاية مصالح كل منهما في المنطقة، يصل الى حد تقاسم نفوذ في المنطقة، قبل تبيان حصة كل طرف منهما.
من هنا ابتعدت واشنطن بعد مفاوضاتها ومجموعة الدول الخمس زائداً واحداً مع إيران عن الدخول الحاد لقلب موازين الاوضاع في منطقة يتقدم فيها الصراع السنّي ـــ الشيعي كأولوية مطلقة. لذا شهدت المنطقة ترتيب اتفاق نووي مع إيران وكيميائي مع سوريا. ووفق ذلك البرنامج التسووي، ترتسم في سوريا معالم تموضع جديد للجيش السوري ـــ ومعه حزب الله ـــ من جهة والمعارضة السورية من جهة أخرى، في مناطق جغرافية استراتيجية لكل منهما. لذا جاءت عملية إخلاء حمص من معارضي النظام وإعادتها الى سلطته كمؤشر على وضع سيناريو، جرى الحديث عنه منذ أشهر، في رسم مناطق حيوية بجغرافيتها للنظام السوري ترسم الكثير من علامات الاستفهام.
فما حصل في حمص يدخل ضمن إطار خط تصاعدي مرسوم بدقة (إقليمياً) على الورق وعلى الأرض، ينفذ ببطء. لكنّ هناك أيضاً خططاً مقابلة لإحداث نوع من الستاتيكو العسكري في مناطق مفيدة جغرافياً للمعارضة، لتشكل ورقة ضغط إقليمية أيضاً على النظام. وكل ذلك يجري في سلاسة سياسية، وإن كان العنف هو الطريقة الوحيدة لتنفيذه.
وعلى خط مواز يجري سياسياً الإعداد لانتخابات سوريا الرئاسية، وانتظار نتائج المماحكات العراقية لإنتاج رئيس حكومة جديد أو بقاء رئيس الحكومة نوري المالكي. أما بالنسبة الى لبنان، فالقرار المسموح تنفيذه حالياً هو حفظ الاستقرار الأمني بقوة. وهو الأمر الذي تتجلى نتائجه من خلال وقف أعمال العنف ومسلسل التوقيفات المتتالية.
أبعد منذ ذلك، لم يتبلغ أي طرف بعد قراراً واضحاً في شأن الانتخابات أو اسم المرشح الحقيقي للتقاطعات الاقليمية والدولية. ما تبلغه معظم المعنيين هو تمرير الوقت، بأفضل الظروف الممكنة، من أجل الوصول الى الفراغ كموعد منطقي ضروري لفرز أوراق اللاعبين على قواعد جديدة. حينها سيضطر الطرفان الى قراءة معادلات جديدة والبحث في خيارات أخرى. وقد بدأت قوى 14 تحاول تخفيف سقف الشروط وطرح معادلات جديدة لتسويق فكرة جديدة للمرشحين التوافقيين، مع علمها مسبقاً بأن سقف طروحاتها محلي، أما التغطية الإقليمية فلا تزال دونها عقبات كثيرة.