صحيح أنّ الجلسة الانتخابية التي عُقدت أمس لم تؤدِّ إلى انتخاب رئيس جديد للبلاد، كما كان متوقّعاً، لتكون أشبه بـ»بروفا» انتخابية، إلّا أنّها حفلت بالرسائل والإشارات التي لا بدّ من قراءتها وتحليلها بتأنٍّ لبناء صورة سياسية حقيقية للواقع اللبناني.
لكنّ الاستنتاج الأوضح والأبرز الذي سبق حتى انعقاد الجلسة كان أنّ الظروف الفعلية لم تنضج بعد للسماح بولادة الرئيس اللبناني الجديد. ومهما كابرَ البعض في الحديث عن “لبنَنة” الاستحقاق إلّا أنّ الاتصالات التي طاولت دولة قطر مثلاً للتأثير على بعض النوّاب ومن بينهم “الجماعة الإسلامية”، إضافةً إلى دول أُخرى تبقى شواهد واضحة على عكس ذلك. لكنّ “تسليف” بعض النقاط شيء وإنجاز تسوية إقليمية كاملة تسمح بإنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني شيء آخر.
فلا بدّ للبنان إلّا أن ينتظر الانتخابات في مصر والعراق، وفي سوريا خصوصاً، ذلك أنّ هذه الاستحقاقات لا بدّ أن تحمل في طيّاتها معالم المناخ الاقليمي الجديد، وتحديداً مسار العلاقة ما بين الجبّارين الإقليميّين، السعودية وإيران.
ففي ظلّ التقدّم الكبير الحاصل بين واشنطن وطهران والذي سينتج اتفاقاً كبيراً في تمّوز المقبل، تحرَّكت قنوات التواصل السعودي – الايراني مجدّداً، وبدا ذلك واضحاً من خلال توجيه دعوة لرئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام في ايران هاشمي رفسنجاني لزيارة السعودية عبر السفير السعودي في طهران.
كلّ ذلك كانت قد سبقته إشارات إيجابية عدّة، وكان للساحة اللبنانية النصيب الأوفر، منها: تأليف حكومة وحدة وطنية، تجاوز عقبات البيان الوزاري، تراجع الخطاب الهجومي تجاه “حزب الله” ومجموعاته في سوريا، إنجاز خطّة أمنية بسِحر ساحر في الشمال والبقاع، ومبالغة وزير الداخلية نهاد المشنوق في التودّد للحزب من خلال دعوة مسؤول لجنة الارتباط والتنسيق فيه وفيق صفا إلى حضور اجتماع أمني رسمي.
المعلومات الموجودة لدى الأوساط الديبلوماسية تتحدّث عن أوّل لقاء مباشر سعودي – إيراني حصل منذ فترة قصيرة وجاء على مستوى مسؤولين أمنيّين من البلدين وبقي سرّياً وعُقد على أرض صديقة للطرفين.
وتضيف هذه المعلومات أنّ واشنطن المستعجلة إنجازَ ترتيبات جديدة في الشرق الأوسط تحفظ مصالحها وتسمح لها بالتفرّغ لاحتواء التمدّد الصيني الهادئ في اتّجاه الشرق الاوسط وأفريقيا، وحتى أوروبا، شجّعت سلطنة عمان على القيام بدور كبير هو الأوّل من نوعه في تاريخها، ويقضي بتوظيف موقعها السياسي المميّز لمصلحة تقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران، والمساعدة في حلّ مشكلاتها الكثيرة والمعقّدة. هذا الدور كانت قد تولّته قطر في مراحل سابقة، خصوصاً بين عامي 2006 و2011، تاريخ اندلاع الأحداث في سوريا.
وسمح الدور القطري يومها بإنجاز “اتفاق الدوحة” الشهير الذي أدّى إلى انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وترتيب تفاهم قضى بتقاسم السلطة في لبنان تحت رعاية قطر وفرنسا وإشرافهما.
لكنّ الحرب الدائرة في سوريا شطبت الدور القطري، على رغم المحاولات الحثيثة التي تبذلها القيادة القطرية أخيراً لاستعادة دورها.
وانتقلت مهمّة قطر، على ما يبدو، إلى سلطنة عمان حيث كانت الرسائل التي حملتها المقابلة التي أجرَتها صحيفة “الحياة” السعودية مع وزير الخارجية العماني واضحةً في هذا المجال. وتشير المعلومات أيضاً إلى لقاء قريب قد يُعقد، لكن علنيّاً ورسميّاً هذه المرّة، بين السعودية وإيران، قبل أن يلبّي رفسنجاني دعوة السعودية إلى زيارتها.
ولا شكّ في أنّ الملفّات الخلافية بين البلدين كثيرة وشائكة، إلّا أنّ استكمال الخطوات الإيجابية عبر الساحة اللبنانية ليست مستبعدة، مثل إعادة استنساخ “فلسفة” اتّفاق الدوحة والتي تتمحور حول تحييد سلاح “حزب الله” عن النزاع السياسي وفق ضوابط مُعيّنة، وإرساء توازن جديد في السلطة يضمن أحجام الجميع ويتولّى السهر عليه رئيس جديد للجمهورية قادر على جمع الأطراف تماشياً مع المناخ الجديد في المنطقة، وهي المهمّة التي فشل الرئيس ميشال سليمان في تولّيها، وهو ما يعني أنّ هذه الظروف قد لا تنضج قبل تمّوز أو آب المقبلين، وهو ما دفع سليمان إلى طلب زيارة السعودية ولقاء ملكِها منذ أكثر من شهر من دون تلقّي أيّ جواب، فيما يستعدّ رئيس الحكومة تمّام سلام لزيارتها قريباً في إطلالته الخارجية الأولى، على أن يليه وزير الخارجية جبران باسيل.
صحيحٌ أنّ الحركة الداخلية ناشطة، لكنّ اللعبة الأساسية تبقى إقليمية بامتياز.