حين «ولّعها» نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري، قبل عام تحديداً، متّهما البطريرك بشارة الراعي بأنه «سفير متنقّل للدفاع عن النظام السوري»، توجّهت الأنظار تلقائياً الى الرياض حيث يتواجد الرئيس سعد الحريري. كلام من هذا العيار الثقيل لم يكن يصدر، برأي الكثيرين، من دون إيعاز من الشيخ المنفي.
هذا لا يعني أن ليس لحليف وصديق «تيار المستقبل» هامشه الواسع في التحرّك ضمن محيطه الأزرق، وهو الذي دفعه سابقاً الى وصف النائب ألان عون بـ«آية الله عون»، وبالتبرّع لتسويق مبادرة الرئيس نبيه بري الإنقاذية داخل «المستقبل» إبّان تأليف الحكومة، وبلعب دور محوري في إقناع حلفائه بصوابية السير بالقانون الانتخابي المختلط، وباتخاذ قراره الشخصي بعدم الترشّح مجدّدا للانتخابات النيابية…
الرجل له حيثيته وحضوره المؤثر في «البلاط الحريري»، لكن ليس الى درجة توجيهه كلاماً «إقصائياً» بحق النائب وليد جنبلاط. هنا يجدر البحث مجدّداً عن المآخذ المتراكمة في صدر «الشيخ سعد».
في غضون ساعات قليلة انفجرت بين «دولته» و«البيك». عملياً، يعتبر مكاري من البراغماتيين داخل «المستقبل». التصويت لـ«جنرال الإبراء المستحيل» ميشال عون من سابع المستحيلات، برأيه. وبالتالي هو يدرك حدود الانفتاح بين الخصمين.
هكذا، وقبل أن تنتهي «اللقاءات الرئاسية» في باريس بين الحريري والوزير جبران باسيل، بشّر مكاري المنتظرين باستبعاد حصول أي توافق بين «المستقبل» و«التيار الوطني الحر» يمهّد لوصول عون الى الرئاسة، وإن تفرّد عن زملائه في «الخط» بالتأكيد أن «ميشال عون ليس مرشّح قوى 8 آذار».
لكن مكاري لم يكتف بالعموميات، بل دخل في صلب الأزمة الصامتة التي تواكب المفاوضات حول الملف الرئاسي حين أشار الى ان «الحسنة الوحيدة» للتوافق بين «المستقبل» والتيار الوطني الحر» هي «إلغاء دور النائب وليد جنبلاط كبيضة قبّان بين الأكثريتين في البرلمان».
فهم «البيك» الرسالة سريعاً، فجاء الردّ صاروخياً وسريعاً من الوزير وائل ابو فاعور الذي ذكّره بمساهمة جنبلاط «في حفظ السلم الأهلي وتغليب الخيارات الوفاقية وحماية الاستقرار»، ومشدّداً «يكفينا هذا الدور أن يقدّره العقلاء».
فهل غاب «العقلاء» عن «تيار الحريري»؟. بالتأكيد لم يكن مكاري أول من قصّ شريط المآخذ على «وليد بيك». سبق للنائب أحمد فتفت قبل نحو اسبوع أن وجّه رسالة مباشرة الى المختارة قائلاً «هل يقبل جنبلاط أن يسمّي المسيحيون زعيم الدروز؟». كان يمكن أن يكون هذا التساؤل في محلّه لو صدر عن احد النواب العونيين او مسيحيّي «14 آذار»، إلا أن «النكعة» الآتية من المقلب الحريري كان لها وقع مختلف.
في اللقاء الأول والوحيد الذي جمع الرئيس الحريري مع العماد عون في باريس، كان الأخير واضحاً بتقديم مقاربة مغايرة للأمر الواقع القائم. العمود الفقري لهذا الطرح تجلّى من خلال تأكيد عون بأن التقارب المسيحي – السنّي – الشيعي، من ضمن عملية «الإنقاذ الوطنية» التي يتحدّث عنها دائماً في مجالسه الخاصة، يلغي التوازنات المصطنعة التي حكمت المشهد الداخلي لفترة طويلة.
كان المقصود بشكل مباشر، الدور الاحتكاري الذي يلعبه جنبلاط من خلال جعل فريقي الصراع رهينة لـ«بيضة قبّانه». تغريد النائب مكاري لم يكن اذاً تماماً خارج السرب، حيث ان الحريري، وفق العارفين، ليس بعيداً عن أجواء التململ من هذا الواقع المزمن، ويرى ضرورة وضع حدّ له. هؤلاء يؤكّدون أن ثمّة همساً يتزايد داخل البيت الأزرق ينتقد دور «الأقلية الحاكمة» (الدرزية).
ومكاري الذي يهمّه ان يصل الى الرئاسة من يحمل «أفكار 14 آذار وأهدافها»، أكان جعجع أو غيره، لا يرغب حتماً برؤية جنبلاط يسلّف فريق «8 آذار» ورقة انتخاب رئيس للجمهورية بالنصف زائداً واحداً. مع العلم أن «عروض» الصوت الوسطي تسقط عند العتبة الأولى، وهي تأمين نصاب الثلثين للحضور.
لكن طبعاً المسألة لا تكمن هنا تحديداً. فما يراه الجنبلاطيون انه دور بنّاء قام به «البيك» لكسر الاصطفافات في المرحلة الماضية لتغليب الخيارات الوفاقية، ينظر اليه أكثرية المستقبليين من منظار آخر.
يؤكد هؤلاء «أن جرح الانقلاب على سعد الحريري والسير بخيار نجيب ميقاتي لم يندمل بعد. وجنبلاط لم يكتف بذلك، بل إن دوره الرمادي بين فريقي 8 و14 آذار حوّلنا الى مجرّد متفرّجين من دون القدرة على تغليب الدفّة لمصلحتنا». أبعد من ذلك ثمّة من يردّد في المقلب الحريري «نريد الانتهاء من ابتزاز وليد جنبلاط».
في الوقائع، قليلة جداً الاتصالات الشخصية والمباشرة بين الحريري وجنبلاط. العلاقة، برأي مقرّبين من رئيس «المستقبل»، لم تسترجع بعد نمطها الطبيعي. بالمقابل، يعرّج الوزير أبو فاعور عادة على «الشيخ» خلال زياراته الى الرياض او باريس، والكيمياء بينهما أفضل بكثير من تلك التي لا تزال مفقودة بين الحريري وجنبلاط.
وفيما يرى الحريريون أن دور جنبلاط أساسي في صياغة المرحلة الرئاسية المقبلة، إلا أن ذلك لا يمنعهم من الحديث عن ضرورة فرض ستاتيكو مغاير عن ذاك الذي فرضه زعيم المختارة سابقاً.
باعتقاد هؤلاء أن لغة الانفتاح الإيجابية المستمرة بين العونيين و«المستقبل»، ستجرّ «حزب الله» والرئيس نبيه بري أيضاً الى مكان مختلف تماماً، من أهم نتائجه نسج تفاهمات جديدة تجعل من الوسطية منتوجاً «منتهي الصلاحية».