ما إن اندلعت حرب غزة الأخيرة، حتى تصاعدت نبرة سياسية-ثقافية يسارية معبرة عن هيامها بحزب الله والنظام السوري وسلاحهما، لأنهما ضرورة استراتيجية لمواجهة القوة الإسرائيلية، بعدما خفتت تلك النبرة مع تورط «حزب الله» في مواجهة الثورة السورية.
ما تريده هذه النزعة راهناً هو الفصل الميكانيكي بين حضورين وهويتين وممارستين ومساحتين يمكن أن يشغلهما «حزب الله» والنظام السوري في الآن ذاته. إذ ثمة «حزب الله» «المقاوم» و «الوطني» الذي يجابه العدو الإسرائيلي، وثمة «حزب الله» آخر، متورط في سورية، غير مرضي عن سلوكه من ذوي هذه النزعة اليسارية السياسية-الثقافية، وإن كان بعضهم يجد لسلوكه في سورية ألف حجة ومبرر! وهناك النظام السوري الذي يفتك بعشرات الآلاف من السوريين، والنظام السوري الذي قد يجابه السطوة الإسرائيلية.
كان لهذا الخطاب أساس سياسي-ثقافي تقليدي، شيده آباء مؤسسون لليسارية الممانعة. فقد كانوا يفصلون بين سياسات نظم صدام حسين والقذافي والأسد الأب «في مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة»، وممارساتهم في الداخل، حيث النهب العام والاستبداد…الخ. الشيوعي السوري خالد بكداش كان أول من روج لذلك المنطق، حينما كان يردد بلا وهن: «في السياسات الداخلية أنا أول المعارضين، وفي السياسات الخارجية أنا أول الجنود».
ما تقفز عنه هذه المخيلة السياسية-الثقافية ثلاثة مركّبات موضوعية تحيط بالمسألة:
لا تريد أن ترى أن هذه القدرة والقابلية الفجة لتيار طائفي كحزب الله، ونظام ديكتاتوري كنظام الأسد، في مسألة بالغة الحساسية كقضية الشعب السوري، لم تكن لتتحقق لولا ما يستبطنه الحزب والنظام من فوقية وغرور تجاه جميع المكونات السياسية والمجتمعية في محيطيهما السكاني، والذي لم يتأتِ سوى من استحواذهما على سلطة رمزية وسطوة استثنائية عبر ما يسمى «مقاومة» إسرائيل. أما الميل إلى ضخ مهام حديثة لهما، لن ينبت سوى المزيد من سمات الاستثناء والفوقية التي يستبطنانها تجاه جميع المخالفين.
من طرف آخر ثمة قفز على الطبيعة «الجهازية» لهذين الحزب والنظام. فهما ليسا تيارين سياسيين حزبيين أو إيديولوجيين بالمعنى التقليدي، بل هما لا يستطيعان ببنيتيهما المخابراتية السرية وانتظامهما العسكري المحكم وجوهرهما العنفي، إلا أن يكونا كتلة صماء، تشبه نفسها دائماً، وفي كل مكان. إذ ليس لأمثال أنظمة الأسد و»حزب الله» أن يكونوا طائفيين وعنيفين ومستبدين في موضع وظرف ما، وأن يكونوا عكس ذلك في ظرف وموقع آخرين. فسلوكيات هذه التنظيمات هو هويتها وذاتها، ولا تستطيع إلا أن تكونه دوماً.
وآخر ما يريدنا ذوو هذا المنطق أن نغض النظر عنه، هو خبيئة أنفسهم من وراء ذلك الفصل، بحيث نؤمن بأن هذين الحزب والنظام تشكيلان سليمان وصحيان، أجبرتهما الظروف القاهرة على أن ينحرفا موقتاً عن جوهرهما، وأن ممارستهما الراهنة في سورية ليست سوى طفرة واستثناء عابر. والعكس هو الدقيق والصحيح، حيث الاستخدام اللفظي والخطابي في مواجهة خصم خارجي هو الاستثناء والعابر في السلوكيات التقليدية لهذين التشكيلين، وتهشيم الداخل والسيطرة عليه، هما العمق والهوية. في رائعته «حارس القبر» يسرد الروائي التشيخي فرانز كافكا حكاية عامل بسيط يطالبه الأمير ليو بحراسة مقابر أسلافه، وعلى رغم اكتشاف هذا العامل حجم الدسائس والمكائد والصغائر التي يمارسها أعضاء العائلة النبيلة هذه، فإنه يبقى مصراً على أن هذه القبور ذات هالة ومكانة عظيمة، لأنها تخص أشخاصاً من ذوي مكانة عالية. ويمضي الحارس يردد هذا لنفسه، على رغم كل ما يراه ببصره وبصيرته، ولا يتجرأ أبداً على تجاوز نفسه!
* كاتب سوري