يصرّ النظام السوري على إجراء انتخابات رئاسية. الحقيقة الوحيدة في الانتخابات التي تجري اليوم هي البراميل المتفجّرة التي تلقى على المدن وأهلها بديلاً من صناديق الإقتراع.
يصرّ النظام على القراءة من كتاب قديم عفا عنه الزمن وأكل الدهر عليه وشرب. عنوان الكتاب أنّ الهرب إلى خارج، أي إلى لبنان خصوصاً، حيث كان التمهيد للانتخابات، ضمانة للنظام ولإستمراره.
منذ ولد، قبل ما يزيد على أربعة عقود، ليست لدى النظام السوري، الباحث دائماً عن شرعيّة ما، سوى لعبة الهرب إلى خارج البلد. يمارس اللعبة من أجل المحافظة على نفسه، أو هكذا يعتقد، فيما يبقى القمع لعبته المفضّلة، داخلياً.
يندرج «إقناع» «حزب الله» وتوابعه عشرات الآلاف من المواطنين السوريين، المقيمين في المناطق اللبنانية التي يسيطر عليها، بالتوجّه إلى مقر السفارة السورية من أجل الإدلاء بأصواتهم في سياق الهرب إلى خارج بحثاً عن شرعية لا وجود لها في الداخل أصلاً.
ما حدث يتمثّل باختصار في أنّ هناك نظاماً سورياً تسيطر عليه عائلة، تنتمي إلى أقلّية معيّنة، قرّرت أن تكون سوريا ملكاً لها. يصرّ النظام على اجراء انتخابات في لبنان، قبل سوريا، حتّى لو تبيّن أن الطريقة التي توجّه بها السوريون إلى السفارة ليست سوى مسرحية هزلية، من أجل إثبات أنّه لا يزال قويّاً في سوريا.
نعم، النظام ما زال قويّاً في لبنان وليس في سوريا. إنّه قويّ في لبنان بفضل ايران. ولذلك ليس ما يمنع «حزب الله»، بصفة كونه أداة ايرانية، من تلبية ما يطلبه منه النظام السوري. هل هذا منطق على علاقة بأي شكل من المنطق؟ هل هذا ممكن بعد كلّ ما تشهده سوريا من مآس يقف خلفها النظام؟ هل يمكن لإيران توفير شرعية للنظام السوري؟.
كانت هذه اللعبة تمرّ في الماضي. كانت تنطلي حتّى على بعض السوريين. لم يعد مكان لهذه اللعبة الآن وذلك لسبب في غاية البساطة. يعود السبب إلى أن مشكلة النظام السوري في سوريا وليست في لبنان. هذه المشكلة مع السوريين أوّلاً الذين كان مطلوباً في كلّ وقت اذلالهم، إلى أن جاء اليوم الذي قالوا فيه إن كفى تعني كفى. قال الشاب السوري لوالده أنّه يفضل الموت على حياة الذلّ التي قبل بها الوالد.
في الواقع، سقط هذا النظام في سوريا. سقط عندما لم يستطع في أيّ يوم تقديم شيء للسوريين. اللهمّ إلّا إذا استثنينا القتل والبؤس والتجويع والتعذيب والممارسات الطائفية التي كانت مجزرة حماة في العام خير دليل عليها.
لا بدّ من الإعتراف بأن النظام السوري وجد لنفسه وظيفة في التسعينات والثمانينات والتسعينات من القرن الماضي. كانت هذه الوظيفة تتمثّل في الإستفادة إلى ابعد حدود من تصدّيه لنظام بعثي ـ عائلي في العراق لا يختلف عنه في شيء، إلّا إذا استثنينا الفائض في الغباء والثروات التي لدى العراق والتي بددها صدّام حسين في حربه مع ايران بين العامين و، ثم في غزوة الكويت في العام .
كان النظام السوري يعتقد، في كلّ وقت، أن خلاصه في لبنان وأنّه يستطيع ممارسة اللعبة اللبنانية إلى ما لا نهاية من أجل البقاء في سوريا. ولذلك شارك في حرب تحرير الكويت وعينه على لبنان. كان ثمن مشاركته في تلك الحرب، إلى جانب القوات الأميركية والقوات الدولية والعربية، الحصول على جائزة كبرى اسمها التمديد لوجوده العسكري والأمني في لبنان…والمتاجرة في الوقت نفسه بالفلسطينيين وما بقي من قضيّتهم في طبيعة الحال.
حصل على هذه الجائزة، التي اسمها لبنان، بالفعل وحافظ عليها برموش العين، إلى أن ارتكب جريمة، أو على الأصحّ شارك مع آخرين في جريمة اغتيال رفيق الحريري ورفاقه. تبيّن أنّ هذه الجريمة في حجم الإجتياح العراقي للكويت واحتلال البلد المستقل الذي فيه قسم لا بأس به من الإحتياط النفطي العالمي.
لم يفهم النظام السوري أن جريمة اغتيال الحريري ورفاقه كانت نقطة تحوّل. لم يفهم أنّه خرج نهائياً من لبنان. لم يفهم ماذا يعني خروجه من لبنان في شهر نيسان من العام بعد شهرين واسبوعين من تفجير موكب رفيق الحريري. لم يستوعب أنّه منذ تلك اللحظة، لم يعد قادراً على الهرب إلى لبنان كما كان يفعل في الماضي من دون إذن من إيران التي باتت تتحكّم بلبنان واللبنانيين، أمنياً، عبر ميليشيا تابعة لها اسمها «حزب الله».
ما فعله النظام السوري، عندما أوعز إلى «حزب الله» بأن يرتّب له تدفّق عشرات آلاف السوريين من الموجودين في لبنان على السفارة السورية للتصويت لبشّار الأسد دليل ضعف أكثر مما هو دليل قوة. إنّه دليل إفلاس يكشف النظام الذي صار في حاجة إلى من يصوّت له في لبنان. لو كان اولئك الذين أدلوا بأصواتهم على استعداد لأن يفدوا بشّار بـ«الروح والدمّ» حقيقة، لكانوا بقوا في سوريا.
هذا كلام مكرّر إلى حد كبير. لكنّ من الضروري التذكير به للقول إنّ النظام السوري الذي هو وليد انقلاب عسكري باسم حزب البعث، ما لبث أن استولى عليه الضباط العلويون ثمّ شخص واحد اسمه حافظ الأسد، قرّر توريث سوريا لابنه، لم يمتلك النظام يوماً أي شرعيّة من أي نوع كان. مشكلة هذا النظام لا تزال نفسها منذ اليوم الأوّل لإنقلاب ثم انقلاب حافظ الأسد على رفاقه العلويين والبعثيين. المشكلة مع السوريين ومع سوريا أوّلاً وأخيراً.
كلّ ما في الأمر أن لكلّ شيء نهاية، كما لكلّ مغامرة هروب نهاية. الهرب إلى لبنان دام طويلاً. دام أكثر مما يجب. جاء يوم العودة إلى سوريا. هل سوريا تقبل النظام؟ الجواب بكلّ بساطة أنّ ما يزيد على ثلاث سنوات من ثورة مستمرّة جواب أكثر من كاف على أن النظام صار في مزبلة التاريخ وليس في أي مكان آخر.
كيف يمكن لنظام ليس لديه ما يقدّمه لشعبه سوى البراميل المتفجّرة أن يستمرّ في حكم بلد، حتّى لو قدّمت له ايران كلّ الخدمات المطلوبة، بما في ذلك «إقناعه» بأنّه لا يزال قويّاً في لبنان ولا يزال قويّاً في سوريا؟. هل الإستعانة بإيران وتسليمه لها بكلّ شيء، بما في ذلك سوريا نفسها، يوفّر لنظام طائفي، مرفوض من شعبه، شرعية ما؟.