الإضراب المفتوح يضع مستقبل الدولة والنظام على المحك
يطرح تداعي القطاع العام الغارق في إضرابه المفتوح العديد من التساؤلات عن دور الدولة ومستقبل إداراتها في ظل فقدانها مقومات الصمود والحماية لشعبها، ما يضعها أكثر في مصاف «الدول الفاشلة» العاجزة عن تأمين أبسط الخدمات الأساسية وإشباع حاجات الأفراد في المجتمع.
بعيداً عن الغوص في قائمة الخدمات والحقوق الأساسية التي يُحرم منها المواطنون بعد أن تحوّل لبنان إلى «سجن كبير» يَحجب عنهم الحق في الحصول على جواز سفر، فإن تنحّي وزير العمل مصطفى بيرم عن متابعة مطالب موظفي القطاع العام يعكس عمق الأزمة في ظل استمرار موظفي الإدارة العامة في إضرابهم المفتوح الذي يُقفل الباب أمام الدولة ويمنعها من تحصيل إيراداتها الضريبية والخدماتية التي يفترض أن تعود أضعافاً مضاعفة إلى تلبية حاجات المواطنين المتعددة، وذلك في ظل غرق المسؤولين في مناكفاتهم السياسية التحاصصية التي تحول دون إعادة تكوين السلطة التنفيذية التي سيؤول إليها العديد من الملفات، منها متابعة خطة التعافي الإقتصادي والتفاوض مع صندوق النقد الدولي، وسط تجاهل مطلق لإعادة هيكلة الإدارة العامة ومكننتها وصولاً إلى تطبيق الحكومة الإلكترونية وقطع الطريق على الزبائنية والمحسوبيات في المرافق العامة، والبدء فعلياً في الإرتقاء من شعارات مكافحة الفساد إلى تطبيقها عملياً عوض مناشدة الجهات المانحة والإعتماد عليها مجدداً لتغذية الصناديق الرديفة للموظفين.
الإجتماع الذي عقد في السراي الحكومي في ضوء الإضراب المفتوح في القطاع العام والذي ضم إلى جانب الرئيس نجيب ميقاتي، وزراء المال والعمل والإتصالات ووزيرة الدولة لشؤون التنمية الادارية وآخرين قبل أيام، لم يقارب أزمة الإدارة المترهلة بمحاولة تطوير عملها وتسهيل حياة المواطنين، إنما نتج عنه مضاعفة المساعدة الإجتماعية إلى راتب كامل بعد أن كانت نصف راتب، وتعديل بدل النقل ليصبح 95 ألف ليرة عن كل حضور يومي، كما زيادة الإعتمادات التعليمية والإستشفائية لتعاونية موظفي الدولة في الموازنة. هذه القرارات لم تبلسم وجع الموظفين ودفعتهم إلى الإستمرار في إضرابهم ونقل معاناتهم إلى جميع المواطنين التواقين إلى إتمام معاملاتهم الرسمية البسيطة كالحصول على «إخراج قيد» أو الترخيص لوضع سيارة قيد السير ناهيك عن دفع الضرائب.
الإضراب المفتوح الذي يعمل به «à la carte» أتاح عودة بعض موظفي المالية إلى عملهم من أجل تحويل الرواتب لزملائهم، ليجد المواطنون أنفسهم في العديد من الإدارات الأخرى أمام اعتماد أساليب ملتوية بتكاليف باهظة لحثّ الموظفين على فكّ إضرابهم وتسهيل معاملاتهم، ما يشي أن الفساد الذي طبع مؤسسات الدولة سيتفاقم مع اعتماد الموظفين على تأمين فارق غلاء المعيشة من جيوب المواطنين.
وأمام هذا الواقع، تحول المرفق العام الذي ارتبط تطوره بتطور دور الدولة ووظائفها وقدرتها على مواكبة حاجات المواطنين في ظل التطور التكنولوجي والعولمة التي فرضت نفسها على تنامي هيكل النظام الدولي، مؤشراً واضحاً لفساد الدولة في لبنان وعجزها المتمادي عن تأمين استمرارية مرافقها ووظائفها، بعد أن كانت الآمال معقودة قبل الأزمة على تحقيق الحكومة الإلكترونية ومكننة الخدمات في المرافق العامة.
الإنهيار الذي ضرب غالبية القطاعات الإنتاجية والخدماتية، والتعليمية والصحية، وسط غياب وسائل النقل العام، وارتفاع كلفة الإتصالات، في ظل انقطاع شبه مطلق للكهرباء، وانخفاض مستوى الخدمات الأخرى في حال توفرها، لم تسلم منه السلطة القضائية المعتكفة عن متابعة القضايا المرفوعة أمامها، ما خلا البتّ في ملفات الموقوفين وإخلاءات السبيل، واعتمادها على «المكرمات» أو المساعدات التي تصلها من الخارج وليس آخرها اقتطاع زملائهم في العراق للمرة الثانية جزءاً من رواتبهم قارب 400 ألف دولار أميركي وزعت على الجسم القضائي في لبنان من خارج الأطر القانونية وأصول قبول الهبات النقدية، على وقع التشكيك المتمادي في أداء الجهاز القضائي الشاهد على تدخلات السياسيين التعطيلية لعمله، وليس آخرها امتناع وزير المالية عن التوقيع على التشكيلات القضائية لسدّ الشواغر في الهيئة العامة لمحكمة التمييز ما يؤدّي إلى التّأثير سلباً على أداء هذه المحكمة ويحول دون انعقادها بفعل فقدان النصاب وتالياً عرقلة البتّ في الطلبات المرفوعة أمامها وأبرزها ما يرتبط بكف يد القاضي طارق البيطار وتجميد التحقيق في قضية المرفأ.
لم تقتصر العدالة المغيّبة في أروقة قصور العدل على هذا الحدّ، بل ارتدّت سلباً على المواطنين كما المحامين الذين غابوا عنها، في حين أجمعت آراء بعض من التقتهم «نداء الوطن» في قصر العدل في بعبدا على أن تداعيات الأزمة كبيرة عليهم كما على موكليهم، مشددين على أن العدالة المتأخرة ليست بعدالة على الإطلاق.
ووسط اعتكاف القضاة عن استئناف المحاكمات ما خلا تلك المرتبطة بالموقوفين والأجانب، يواظب المساعدون القضائيون على الحضور 3 أيام في الأسبوع وتسجيل الشكاوى كما المراجعات، ليسجل موظفو المالية خرقهم الإضراب المفتوح والحضور يومي الثلثاء والخميس إلى قصور العدل لاستيفاء عائدات محاضر السير.
استنسابية الإلتزام في الإضراب لا تقف عند مرافق محددة، فدوائر المالية في بعبدا تقوم بتسهيل المعاملات على أن يتم الدفع في مالية بيروت، والعودة إليها بالوصل المدفوع لإكمال المعاملة. في حين تلتزم غالبية موظفي السجل التجاري والدوائر العقارية بالإضراب، ليعمد البعض منهم الى الإلتحاق بعمله وتسهيل أمور المواطنين قدر الإمكان وفق تعبير أحد الموظفين الذي ارتأى عدم الإلتزام بالإضراب، مؤكداً أن منزله القريب يبدد تكاليف النقل المرتفعة ويبعد عنه مشقة الجلوس في المنزل في ظل الأفق المسدود الذي فرضه الإنهيار الإقتصادي على الجميع.
وفي متابعة للإتصالات التي يقوم بها رئيس الحكومة مع المعنيين للعودة عن إضرابهم، تغيب الطروحات التي تسهّل حياة المواطنين وتخفف عنهم مشقة وتكاليف الإنتقال و»الشرشحة» في الدوائر الرسمية، لا بل على العكس يسود الحديث عن حضور الموظفين يوماً أو يومين في الأسبوع، ما يضع المواطن رهينة الموظفين الذين سيعمدون إلى مضاعفة المبالغ التي يحصلون عليها عن طريق «الرشوة» في طرق ملتوية، مع توجه الحكومة لتقديم زيادات على رواتبهم ومساعدات أخرى. وعلى الرغم من أحقية البعض منهم في الحصول عليها، إلا أن إرتداداتها السلبية على الخزينة ستفوق بأضعاف ما نتج عن سلسلة الرتب والرواتب وملحقاتها.
وأمام هذا الواقع، وفي ظل غياب تعريف علمي شامل لما يعنيه مصطلح الدولة الفاشلة، فإن جميع المؤشرات في لبنان تضعه في مصاف الدول الفاشلة من خلال استمرار التفكك المؤسساتي ما يطرح العديد من التساؤلات والتحديات حول الإستقرار في المرحلة المقبلة.