Site icon IMLebanon

الخلافة الإسلامية في زمن الدولة الوطنية والعولمة الاقتصادية

الدولة الاسلامية الساعية لجمع المسلمين “على كل الارض” تحت راية الخلافة ساهمت في انطلاقتها المدوية بالتمهيد لمشروع دولة جديدة غايتها حماية الاكراد المسلمين السنة في شمال العراق من الدولة الاسلامية. ولطالما انتظر الاكراد اللحظة التاريخية المؤاتية لاعلان كفرهم بالدولة المركزية، الاسلامية والقومية، التي حكمت العراق وتحكمت بهم وبسواهم منذ نشوئها في عشرينيات القرن المنصرم. دولة الخلافة السلفية ساهمت ايضا في تأجيج الانقسامات والفرقة بين المتشددين الاسلاميين انفسهم، بدءا بالتنظيم الام، القاعدة، وصولا الى تنظيمات اسلامية متنوعة الانتماءات والاهواء.

في تاريخ المنطقة والعالم حركات متطرفة، دينية أومناهضة للدين، اطلّت برأسها، وكان لها التأثير الحاسم في مسار التاريخ ومصير الشعوب باسم الدفاع عن قضايا غالبا ما تكون متخيلة، ومنها الحركات المتطرفة التي انطلقت في اوروبا بعد الحرب العالمية الاولى والتي كلفت اكثر من 20 مليون ضحية وخراباً كبيراً في الممتلكات وخراباً اكبر في العقول التي انتجت النازية الهتلرية والفاشية والشيوعية الستالينية.

وها نحن اليوم في هذه المنطقة من العالم، وبعد قرن على الحرب الكونية الاولى، تُطلق “داعش” دولتها في مطلع القرن الواحد والعشرين رافعة راية الاسلام لحمايته من الاستهداف من الغرب والشرق على حد سواء. دولة الخلافة تُعلن الحرب على الجميع، الا ان الحرب لم تكن ممكنة لولا تحالف “داعش” مع العصبيات الصلبة في بيئتها الحاضنة: فلول حزب البعث والعشائر في صحوتها الاخيرة، ومتضررين كثر بحثا عن سلطة ضائعة او جاه مفقود، وربما دولاً وجماعات متضاربة المصالح والاهداف. هذا يعني ان تحكيم شرع الله لم يكن ممكنا لولا هذا الخليط الغريب من العصبيات والارادات غير الالهية لتحقيق غايات واهداف متناقضة.

هذه ليست قضية دفاع عن الدين، بل صراع على السلطة في زمن انهيار الدولة الوطنية واشتداد الشرخ المذهبي. الدين هو الغلاف الاكثر جذبا وجاذبية، والمضمون هو السلطة والتسلّط في سياق المشروع الاستبدادي العتيد، مثلما كانت حال الحركات الراديكالية عبر التاريخ في الحضارات والثقافات كافة.

في زمن بلغ فيه المقدس والتقديس أوجه، جاءت “داعش”، باسم “اهل الحل والعقد”، إضافة مقلقة لهذا النمط السائد في منطقة لم تعد قضاياها تشكل هاجسا كبيرا للدول الكبرى بالمقارنة مع مراحل سابقة. دولة الخلافة في التاريخ كانت نتاج الامبراطوريات وازمنة ولت، سياسيا ودينيا، وليست فقط نتاج حركات مسلحة رافضة للامر الواقع. الخلافة الداعشية هي نتاج الفراغ على مستوى الدولة المركزية التي سقطت لاسباب مختلفة: في العراق في حرب 2003 وفي سوريا في زمن الربيع العربي منذ العام 2011. اما الدين فهو الاكثر عرضة للتوظيف السياسي والسلطوي مع تعدّد المرجعيات وتشتتها وغياب المرجعية الوازنة، مثلما كان الازهر ومعه مصر في زمن مضى. انها حالة فوضى، سياسية ودينية، تجتاح المنطقة وهي لا تنتج الا الفوضى والعنف واطلاق الاحكام القاطعة – للرؤوس والعقول.

دعوة “الخليفة ابراهيم” المسلمين الى الانضمام الى الدولة الجديدة وقتال المشركين سبقتها دعوات مماثلة في دولة الطالبان الافغانية ودولة السودان الاسلامية، وهي دول ارتكزت على ارض اكثر صلابة من دولة داعش الواقعة، جغرافيا وسياسيا، على تقاطع اكثر خطوط الصدع تصدعا في العالم الاسلامي المعاصر بين ايران والمملكة العربية السعودية وتركيا وطبعا العراق وسوريا.

الدولة الاسلامية في تجاربها المتعددة نجحت واخفقت لاسباب موضوعية لا بسبب المؤامرة والغضب الآلهي. في الصومال والسودان كانت محاولة فاشلة، وفي افغانستان الطالبانية كانت سببا لحرب كونية مصغرة. نجحت ايران وقبلها المملكة العربية السعودية في ارساء كيان لدولة اسلامية قادرة وفاعلة لاسباب عديدة اهمها عصبية الدولة في المرحلة التأسيسية وظروف اقليمية ودولية مؤاتية. اما دولة داعش فهي سائرة عكس الجغرافيا والتاريخ في زمن الدول الوطنية والاقتصاد المعولم في النظام العالمي المعاصر.

“دولة داعش”، شأنها شأن مثيلاتها من التنظيمات الراديكالية، هي خليط من المصالح والعصبيات، والتاريخ حافل ببدايات مشرقة لحركات راديكالية، قومية، علمانية، أو بروليتارية، وحافل ايضا بالفشل والاندثار. وبين النجاح والفشل يسقط آلاف الضحايا الابرياء. وفي العراق، وعلى تخوم دولة الخلافة الجديدة، اجتاح صدام حسين جارته الكويت في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، وتخطى بذلك الخطوط الحمر جميعها. اليوم “داعش” تتجاوز الخطوط الحمر في الدين والدنيا. انه صدام الحضارات والدين والقوميات بأبشع صوره، وساحته الآن المشرق العربي في بلاد ما بين النهرين والشام والهلال الخصيب والامبراطوريات الكبرى والصغرى، المسيحية والاسلامية والاستعمارية، بكل هوياتها واهدافها السامية والقاتلة. اما الضحايا فهم الاجداد والابناء والاحفاد.