عندما انتُخب البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، استطاع وللمرّة الأولى جمعَ قادة الموارنة في بكركي، وقد سجَّل مراقبون كُثر القدرة على الإفادة من هالة الكنيسة، لوضعِ المسيحيّين في قلب الحدث، ولرأب ما يمكن رأبه من الانقسام التاريخي، الذي بدأ بعد مجزرة إهدن، وتعمَّق عام 1988، إثر الحرب التي شهدَتها المنطقة الشرقية بين الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال عون، و»القوات اللبنانية» بقيادة الدكتور سمير جعجع.
للمرّة الأولى بعد انتخاب الراعي، يجد البطريرك نفسه أمام مفترق، ويكاد يذهب العنوان الذي التزمه برنامجَ عمل أدراج الرياح. تكاد صورة الاجتماع الرباعي تتبدَّد، أو هي تبدَّدت فعلاً، بعدما تكرَّرت هذه اللقاءات في بكركي، وصدر عنها ما صدر، ليتبيَّن لاحقاً أنّ البطريرك تعرّض لخديعة هي عبارة عن قبول أقطاب الموارنة الأربعة اللقاء، والتقاط الصورة، فيما كان الواقع أنّ بعضهم، جلس إلى طاولة بكركي فقط لأهداف دعائية، خشية الظهور بمظهر العرقلة لمساعي الراعي التوحيدية.
فما حصل في بكركي يُعَدّ سابقة كبرى في النكث بالوعود، تحت أنظار البطريرك والأحبار والمطارنة. أن يلتزم عون والنائب سليمان فرنجية الحضور إلى جلسة انتخاب رئيس الجمهورية ثمّ يتخلّفان قبل صياح الديك، فهذا يُضعِف موقع الكنيسة، التي تطالب جميع النواب المسيحيّين بالمشاركة في جلسة انتخاب الرئيس، لمعرفتها أنّ المسيحيّين إذا تخلَّفوا عن هذا الواجب قبل 25 أيّار، فيُسبّبون الفراغ، الذي لن يستطيعوا بعده التحكّم بمسار اللعبة الانتخابية، لأنّها تكون بحُكم سير الأمور، قد خرجت من أيديهم.
أمام هذا الواقع، تتحدّث أوساط مسيحية عن خطوات تصعيدية سيتّخذها الراعي قبل 25 أيّار، إذا استمرّ فريق «8 آذار» المسيحي بمقاطعة جلسات الانتخاب. هذه الخطوات يمكن أن تبدأ بتحميل المسؤولية بالإسم للطرف المعطّل والطلب إليه النزول إلى الجلسة، ولكن هل يكفي ذلك، إنْ حصل، للضغط على المعطّلين للعودة عن تعطيلهم؟ وهل ستنعقد هذه الجلسة بنصابها الطبيعي قبل 25 أيار؟
الأرجح، وفق الأوساط، أنّ صوت الراعي سيكون كالصوت الصارخ في البرّية. ففريق «8 آذار» مصمّم على تعطيل النصاب، ولم يعُد يأبه لحصول الفراغ، الذي يأمل أن يكون الوسيلة لفرض المرشّح المناسب، خصوصاً إذا ما أرفِق هذا الفراغ بفوضى أمنية.
يواجه الراعي وضعاً مشابهاً لما واجهه البطريرك مار نصرالله بطرس صفير عامَي 1988 و2008، فهل سيكتفي الراعي بالتحذير المموّه من الفراغ، أم سيذهب إلى الحَدّ الأقصى لمنع حصوله، خصوصاً أنّ الفراغ هذه المرّة يفتح الباب جدّياً أمام البحث في «اتّفاق الطائف» والصلاحيات، مع ما يعني ذلك من إعادة النظر في حصّة المسيحيّين في الدولة والنظام.
يتابع فريق «8 آذار» لعبة حافة الهاوية في تطيير النصاب، لكن ما يغيب عن بال هذا الفريق أنّ كلّ المفاوضات التي يجريها مع تيار «المستقبل»، للتوافق على «توافقية» عون، لن تؤدّي في أفضل حالاتها إلّا إلى الاتّفاق على أجندات داخلية لا علاقة لها بالرئاسة. ففريق الرئيس سعد الحريري يهدف من كلّ هذا الانفتاح إلى تحييد عون عن أن يكون أداة تعطيل في الداخل، من دون إعطائه أيّ وعدٍ بالموافقة عليه رئيساً للجمهورية، وبالتالي فإنّ رهان عون على الفراغ لتعزيز أسهمِه الرئاسية، يبقى رهاناً غير واقعيّ، لأنّ الأسماء المرشّحة لتعبئة الفراغ لا تنتمي إلى أيّ من الفريقين، ولأنّ شروط إنتاج اسم التسوية، لا تنطبق على المسار الحالي الذي يعطي للتأثير الداخلي حيّزاً أكبر في اختيار اسم الرئيس الجديد.