Site icon IMLebanon

السلطة إذ تريد حمص للاستئثار بـ «سورية المفيدة»

أصبح المعنيّون بإنهاء الأزمة السورية يحسبون الزمن الآتي بالسنوات. وكان بعض ممن يعرفون النظام جيداً قالوا إنه أعدّ نفسه لعشر سنين لكن صعُب تصديقهم. وفيما يستعدّ لانتخابات رئاسية لا يستطيع انكار أنه في مأزق حتى لو كان يحقق تقدماً لمصلحة منطق التقسيم، لا منطق الحفاظ على الدولة والمؤسسات الذي تتشبّث به الدول الكبرى في تبرير عدم اندفاعها لدعم محاولات إسقاطه. فالحلفاء قدّموا له كل ما يحتاجه وقاموا بالأدوار التي توقّعها منهم، ولا يزالون يدعمون بقاءه، إلا أنه لا يضمن دوام الظروف على حالها الراهنة. فالمجريات تتجه نحو «حرب استنزاف»، وهي ذات حدّين.

لعب النظام ورقة «الإرهاب» بمهارة ضد خصومه المحليين والخارجيين، وجنى نتائجها العسكرية لكنها لم تُحدث انقلاباً في المواقف لمصلحته. يستطيع الحلفاء الروس والايرانيون تمكين نظام بشار الأسد من بعض الإنجازات، لكنهم، مهما فعلوا، لن يؤمّنوا له قبولاً سورياً وإقليمياً ودولياً. وإذ يضغط الآن لإسقاط حمص لوصْلها بالقلمون، فإنه لا ينفكّ يشحن عداءً حاضراً ولاحقاً ضدّه إذ يتصرّف كغازٍ مهّد لهجماته بسلسلة مجازر ثم بالأرض المحروقة ثم بحصار طويل. لكنه لا يستطيع تغيير ما تمثّله حمص سكانياً واجتماعياً، كما فعل الاسرائيليون بمدن فلسطين، ولا ما ترمز اليه عربياً وإسلامياً.

ثمة وجوه كثيرة للتهوّر في هذا التوجّه لإجراء ما يسمّى «انتخابات رئاسية». ليس أبرزها تفصيل شروط الترشيح لاستبعاد المعارضين، فهذه من سمات «المهزلة». وليس أهمها نسف مساعي «الحل السياسي»، فهو لم يتعاطاها إلا صوَرياً. لكن أكثرها خطورةً تكريس الانقسام الجغرافي والديموغرافي والاجتماعي لانتزاع «سورية المفيدة» ولفظ ما يتبقّى، بما في ذلك أكثر من عشرة ملايين سوري بين نازح ومهجّر أو مقتلع من أرضه. ومن الواضح حالياً أن النهاية التي توقّعها الأسد لـ «المرحلة النشطة من العمليات القتالية» بحلول نهاية السنة تعني أنه لم يعد يتطلّع الى استعادة سيطرة كاملة – لا يستطيعها في أي حال – على البلد، وإنما يريد منه الجزء الذي يرغب في الاحتفاظ به ويلزمه لمواصلة «استنزاف» المناطق الاخرى التي استخدم تنظيم «داعش» وميليشيا صالح مسلم الكردية لإغراقها في الفوضى والإشكالات.

مع ذلك، يبدو أن «الحل السياسي» لا يغيب كليّاً عن تصوّر النظام المرحلة المقبلة، أو الدقّة عن تصوّر الايرانيين الذين باتوا يفكّرون له وبالنيابة عنه. فمن بين ما يروّجونه أن الأسد سيباشر بعد الانتخابات تنظيم بقاء نظامه ووضع نهايةٍ للأزمة من قبله: أولاً برسم الحدود التي يريد الحفاظ عليها وتأمينها، وثانياً بعزل مناطق المعارضة ومواصلة الحرب، وثالثاً بالمبادرة في بداية ولايته الثالثة الى طرح سيناريو منقّح لعملية سياسية كان عرضها في خطب سابقة وبناها على إقصاء المعارضة الحقيقية، ليستأنس فقط بالراغبين في المشاركة من «معارضة الداخل». فبعدما أوقف الأسد محاولة نائبه فاروق الشرع لإجراء «حوار وطني» بأدنى مواصفات المعقولية، وأحبط مبادرة الجامعة العربية وكل مبادرة بعدها، يريد القول إن «مبادرته» هي الوحيدة على الطاولة. ووفق أحد المطلعين، فإن المراحل الكثيرة والطويلة التي اقترحها الأسد لهذه العملية لن تبلغ غاياتها (دستور آخر، قانون جديد للانتخاب…)، إلا في ولايته الخامسة أو السادسة اذا قُدّر له أن يبقى، ثم إنها لن تتوصل أبداً الى أي «مصالحة».

المعارضة في مأزق أكبر، ولا بدّ لها من بذل جهد جذري وحاسم لتنظيم صفوفها و «بقائها» هي الاخرى. فالأزمة تراجعت في الاهتمام الدولي أمام الأزمة الاوكرانية، وليست لدى «الائتلاف» الوسائل اللازمة لاستغلال فترة المراوحة الحالية أو للتأثير في الأحداث عسكرياً وسياسياً. وإذ يشير حراكها الحالي في الخارج الى أنها استشعرت بأن المعطيات ليست في صالحها، سواء بانتهاء المرحلة السابقة من دون أن تحقق هدفها بإسقاط النظام، أو بإدراك الخطورة البالغة للمرحلة الجديدة اذا واصل «الأصدقاء» التعامل مع الأزمة بالمراوحة والغموض الاستراتيجي نفسيهما. ولعل أكثر ما عانته منذ أواخر 2011 أنها وجدت نفسها: 1) «مسبوقة» في مواجهة لم تستعدّ لها ضدّ نظام أعدّ نفسه لكل الاحتمالات، 2) مدعوة الى إنشاء كيان معارض يتمتّع بحدٍّ أدنى من الوحدة والتماسك على رغم تجاربها المبتورة في الاجتماع السياسي وكذلك استفاقة التمايزات الطائفية والاثنية والمناطقية وغيرها، 3) مضطرّة لقبول «العسكرة» المتسارعة للصراع والتكيّف معها من دون أي تكافؤ في القوى والتسلّح، 4) مضطرّة أيضاً للاعتماد على القوى الخارجية لتأمين كل مواردها، وأخيراً 5) مجبرة على خوض حربين في آن، ضد النظام والمجموعات الارهابية التي اخترقت مناطقها وأربكتها.

كان هذا الواقع مكتظّاً بسلبيات وعقبات لم تزل بعد ثلاثة أعوام، فالعمل التنظيمي لتنسيق الجهود وتوحيدها بدا أشبه بمتاهة، وساهم في تعقيده أن الأطراف الخارجية التي رأت تأخر المعارضة وتعثّرها بالصعوبات راحت تنشئ قنوات مباشرة للدعم والتواصل مع قوى في الداخل آملة في تقنين معارضة الخارج من دون الاستغناء عنها. ولم تنجح هذه العشوائية في بلورة كيان واحد بل كيانات متنافرة لمعارضة الداخل، ما فاقم الخلل في العلاقة بين الداخل والخارج، لأن المعوقات كانت ولا تزال هي نفسها. لذلك توجّب على «المجلس الوطني» ثم «الائتلاف» أن يعملا في حدود الممكن والمتاح من الارتباط بالداخل الذي راح يشهد بدوره تحوّلات لم تكن أيضاً في اتجاه تنسيق أكثر جدوى بين أطراف المعارضة.

قد يكون هذا الكلام مكرراً أو أنه لم يعد مفيداً الآن، لكن لا بدّ من التذكير به لأن المعارضة عانت دائماً من معوّقات بنيوية لم تستطع التغلّب عليها. ومع ذلك فهي ليست مخيّرة: عليها الآن أن تراجع مسيرتها سريعاً وأن تبني طريقة عمل جديدة، وقد باشر «الائتلاف» محاولة في هذا السبيل. لعل المأخذ الأهم الذي سجّله مراقبون خارجيون على المعارضة أنها في أوج اندفاعها ونجاحاتها الميدانية لم تتمكّن من تأمين منطقة أو مدينة لتجعلها مقرّاً لقيادتها السياسية والعسكرية (ككردستان للعراقيين، وبنغازي لليبيين)، ولا شك في أن عدم وجود منطقة كهذه ظلّ ثغرة كبيرة في انجازات المعارضة وحال تفعيل التواصل بين الداخل والخارج. لكن عوامل ثلاثة حالت دون اقامتها: 1) عدم وجود تغطية جوية أو قرار دولي بحظر الطيران، 2) انتشار واسع ومزمن لقوات النظام حول المدن وداخلها، و3) ادخال مجموعات «داعش» لاختراق مناطق المعارضة ثم تحريك الميليشيا الكردية بالتزامن مع نضوج ظروف كانت ستمكّن «الجيش الحرّ» من اقامة مثل هذه المنطقة على رغم الأخطار…

بعد ذلك، تبدّلت أحوال «الجيش الحرّ»، أو قل ساءت، لأن القوى الخارجية لم تمدّه بالسلاح النوعي، ولأن قيادة الأركان لم تتلقَّ التمويل اللازم لربط كل المجالس العسكرية بها، ما أدّى أخيراً الى انشقاقات قيادية في هذا «الجيش» اعتبرت على نطاق واسع انعكاساً لخلافات بين الدول الداعمة. وكادت هذه الخلافات تزعزع «الائتلاف» لحظة كان يناقش قراره المشاركة في مفاوضات جنيف. ليس معلوماً بعد اذا كان الحوار الاميركي – السعودي، وبالتالي الاتفاق الأخير بين دول مجلس التعاون الخليجي، سينعكسان ايجاباً على «الائتلاف» و «الجيش الحرّ». فالجميع محكوم باستحقاقات المرحلة المقبلة في ظل تفوق واضح للنظامين السوري والايراني، لكنه تفوّق لا يصنع منتصراً بل يديم الصراع ولا يبلور حلاً عسكرياً أو سياسياً اذا بقيت المعارضة في حالها الراهنة بإرادة «أصدقائها».