Site icon IMLebanon

السوريون لا يشعرون بحاجتهم إلى الدولة

بات من المعروف أن السوريين لم يبنوا دولتهم، في الربع الثاني من القرن الماضي، وفق صراعات أو توافقات معتادة لبناء الدول، بل ورثوا مؤسسات دولة كان قد أنشأها الاستعمار الفرنسي. لهذا كان من السهل على السلطات الانقلابية، التي جاءت بعد بضع سنوات من الاستقلال، تحويل الدولة إلى أداة حكم بدل أن تكون مؤسسة تنظم الحياة العامة والمصالح المشتركة بين جميع السوريين. وصار هذا التحول جلياً أكثر مع وصول حافظ الأسد الى السلطة ومع رسوخ حكمه الذي امتد طويلاً. فتحولت مؤسسات الدولة بخطى سريعة إلى أجهزة تسلط، تستخدمها السلطة السياسية/العسكرية لإخضاع السوريين وتحويلهم إلى رعايا، ليس بالمعنى الاقتصادي فقط للكلمة، بل بالمعنى الاجتماعي والسياسي ليتحول بذلك السوريون إلى مجرد موضوع للحُكم، بعيدين كل البعد من أن يكونوا مواطنين.

ومع مرور ثلاثة عقود من حكم حافظ الأسد، وأكثر من عشر سنوات من حكم ابنه بشار الأسد، أصبحت الدولة بذهنية العموم السوري كياناً مفارقاً للسوريين: يسترضونها، يسرقونها، يحتالون عليها، يخافونها، يخفون آراءهم عنها، يمارسون تجاهها كل ما يؤكد عدم انتمائهم إليها. فحتى المال العام عرفه السوريون على أنه مال الدولة، أي مال السلطة. ليس منهم وليس لهم. لهذا، فإن رئيس السلطة عندما يصرف من هذا المال للخدمات العامة، فإن عمله هذا يسمى رسمياً «مَكرُمة». لأنه بالعرف العام، وبالقوانين التي يفرضها هو، يمكنه أن يتصرف بهذا المال كما يشاء بما في ذلك تركه مستباحاً لأقربائه والمحيطين به. وكذلك حال الملكيات العامة، فهي بالعرف العام أملاك للدولة وليست أملاكاً للعموم السوري. لهذا لا يهتم السوريون بحمايتها أو الحفاظ عليها، بل على العكس فقد اعتادوا اعتبار إساءة استخدامها أو نهبها حلالاً. باختصار، إن الدولة ليست شأناً معيوشاً بالنسبة الى السوريين، وأن الحديث الملم بهذا الموضوع يحتاج الى أبحاث موسعة.

بناء على هذا الفهم للدولة، وعلى هذه العلاقة معها، نلحظ أنه ما إن استقرت الانتفاضة السورية، التي انطلقت في آذار (مارس) 2011، حتى صار الاستقلال عن الدولة جزءاً من مطالب بعض المناطق المنتفضة. كان هذا المطلب مرتبكاً وفجاً في البداية، تجلى في ذاك الحين بالحديث عن استقلال أمني وقضائي عن الدولة. وقد أبلغت بعض القيادات الميدانية فريق السيد كوفي عنان بذلك في ربيع 2012 خلال المحادثات التي أجريت بينهما. حينها لم يكن في أذهان هذه القيادات الميدانية تصور كامل لهذا، خصوصاً أنهم حاولوا إدراجه ضمن وحدة الدولة السورية.

كذلك يمكن أن نجد أنه حتى الحراك المسلح المعارض، الذي ظهر في مواجهة السلطات الأمنية، بقي في غالبيته حراكاً مناطقياً. فغالبية المجموعات المسلحة بقيت في مناطقها بعد أن سيطرت عليها وأخرجت قوات النظام ومؤسسات الدولة منها. فلم تحاول الخروج من هذه المناطق مكتفية بمناوشات محدودة مع مواقع قوات النظام المحيطة ببلدتها أو منطقتها. وكان شعار إسقاط النظام بالنسبة إلى هؤلاء شعاراً مناطقياً وليس وطنياً.

ومع تطور التواصل بين الناشطين المحليين وجهات غربية حكومية وغير حكومية، ومع اتساع رقعة المناطق الخارجة عن سيطرة السلطة، بدأت تظهر وتنمو عند الناشطين وعند هذه الجهات الغربية فكرة إقامة مجالس محلية تتولى الاهتمام بشؤون الأهالي في كل منطقة على حدة. فكانت عبارة عن مجالس للمناطق والبلدات، مشكّلة من شخصيات مدنية وعسكرية أو مسلحة، اصطفاها الواقع الصراعي مع السلطة من خلال إثبات قوتها ومقدرتها على التحكم بسبل الصراع، وبخاصة تلك الشخصيات التي تمكنت من إقامة علاقة ثابتة مع جهات خارجية.

كان من أولى مهمات هذه المجالس الإشراف على مصادر الإغاثة الغذائية والإسعافية، وكذلك على مصادر السلاح والذخيرة. غير أن أحد العيوب الرئيسة لهذه المجالس هو أنه تم تشكيلها لتكون مستقلة عن بعضها بعضاً، بانفصال يكرس إسقاط الحاجة إلى دولة.

ومع مضي الوقت، بدأت تظهر طروحات متكاملة لمسألة الاستقلال عن الدولة السورية، تتعدى مسألة الشرطة والقضاء لتشمل مسائل كالخدمات والتمثيل السياسي، بعد أن تصوّر بعض أعضاء هذه المجالس أن التمويل الذي يصلهم الآن من جهات مموِّلة قد يكون دائماً. وتذرعت هذه الطروحات في تبرير استقلالها عن الدولة بأن الأمر موقت ومرهون بانتهاء حكم بشار الأسد. لكن على الأرجح أن هذا الأمر متى ما ترسخ سيكون من الصعب إعادة ذوبان هذه المناطق ضمن دولة مركزية حتى بعد رحيل بشار الأسد.

من الطبيعي أن يحضر مثل هذا الطرح مع غياب أي ارتباط قانوني لهؤلاء السكان مع الدولة السورية، ولعدم وجود أي إحساس لديهم بالمواطنية، بل لغياب الوطنية السورية التي يمكن أن تعطي معاني واضحة لارتباط السوريين ببعضهم بعضاً وفق قيم يستشعرونها ويقبلون بها ويدافعون عنها.

يضاف إلى هذا أن النظام السوري خلال العقود الماضية كان قد عمل على تحطيم البنى الاجتماعية السابقة للدولة، كالقبيلة والطائفة، من دون أن يبني، أو يتيح بناء، بنية وطنية تقوم على المواطنة بين المواطن والدولة. لهذا لم يكن عند الفرد السوري، في أتون هذا الصراع القاسي، أي منظومات اجتماعية، قبلية أو عشائرية أو حتى طائفية، يمكنه أن ينتظم فيها. لهذا نجده تائه الولاء، يرحب بأي جماعة يمكنها أن تقدم له شيئاً من الحماية أو بعضاً من الخدمات، حتى لو كانت جماعة أصولية ليس له عهد بنواظمها.

من هنا يمكننا معرفة لماذا لم تلق الطروحات السياسية المبنية على المصالح الجامعة لكل السوريين أو الداعية الى الوحدة الوطنية أي تجاوب يذكر من عموم المواطنين في المناطق الاحتجاجية، ولا حتى في المناطق الأخرى التي لم تتمكن الحركة الاحتجاجية من الاستقرار والاستمرار فيها.

هذا الوضع الذي يشكل دليلاً على انهيار الدولة السورية هو مؤشر أيضاً على خطر تفتت الكيان السياسي السوري. ومواجهته ليست مناطة الآن بالسكان، بل هي مسؤولية من وضع نفسه في موقع القيادات السياسية. فعلى هؤلاء مراعاة مسألة الوحدة الوطنية والدولة المركزية في كل برامجهم وتوجهاتهم وتصريحاتهم. وهذا لا يتعارض مع اللامركزية الإدارية التي باتت ضرورة محسومة في بناء الدولة السورية الحديثة، إذا ما أتاحت لنا الأقدار فرصة تاريخية لإنهاء هذه الأزمة وبناء دولة وطنية سورية تحقق العدالة والمساواة لجميع السوريين.

* رئيس تيار بناء الدولة السورية