لماذا غضُّ الطرفِ عمّا يحصل في العراق؟ ولماذا أصبحت بيانات الإدانة الغربية تُشبه بيانات الجامعة العربية؟ فاللامبالاة الغربيّة تُثير الخوفَ والريبة حتماً، وتدعو إلى اليقين بأنّ الغرب مستعدّ لقبول الأمرَّين من أجل المساهمة في تركيبة الـPuzzle الشرق أوسطيّة الجديدة أو خريطة الشرق الأوسط الجديدة، كما آثروا تسميتها.
أمّا الذي يدعو إلى التساؤل فهو غضُّ الطرف العربي المسلِم السنّي والشيعي عموماً، واللبناني تحديداً الذي لم ينطق حتى اليوم سوى ببعض الإدانات الخجولة التي لم تُعبّر رسميّاً وبوضوح عن موقف موحَّد أو جريء، ولم تُقدِم على خطوة تضامنية على غرار خطوة المؤسّسات الإعلامية المرئية عندما اختارت توحيد نشراتها دعماً لمجزرة الشجاعية والقضية الفلسطينية، ليتساءل البعض:
1 – ألا تستحقّ الموصل المدينة المسيحيّة الأعرق في التاريخ وقفةً تضامنية موحّدة من رجال الدين المسلمين قبل المسيحيّين؟
2 – ألا يستحقّ وجودٌ مسيحيّ عمرُه 1400 عام من النضال والتآخي مع المسلمين موقفاً موحّداً وجريئاً وعمَلياً وليس كلاماً يخلفُه الصدى؟
3 – ألا تستحقّ الأيقونات والأديرة والتاريخ المسيحي في الموصل الذي يُنهَك ويُسلَب أبناؤه ويشرَّد شعبُه، إنْ لم يُشهِر إسلامَه، وقفةً عربية تاريخية تُنصِف الديانة المسيحية وأبناءَها في الموصل؟
أمّا إذا سلّمنا بأنّ لتلك الدوَل الداعمة لـ»داعش» مصلحةً في غليان الشرق وبالإبادة المسيحية فيه وبالتطهير الديني القائم في العراق! ماذا فعل البنانيّون أو سيفعلون لتحصين الداخل؟ هل نعاود تعدادَ الضحايا ونتفرّج، وكيف يمكن تغيير الواقع؟
يرى خبَراء ومحلّلون سياسيّون أنّ الوضع المأساوي في الموصل، من تهجير وتخيير المسيحيّين بين إشهار إسلامهم أو الرحيل، فيما تُسلَب مقتنياتهم
وتُدمَغ منازلهم بالنون السوداء علامةً على أنّهم نصارى، يوازي ما يحصل في لبنان وفلسطين وأكثر، بعدما استولت «داعش» على مهدٍ مهمّ للمسيحية، ويصِفون المشاهد المؤثرة لشهادات الأهالي بأنّها غير مسبوقة في الزمن الحالي، في وقتٍ لم تَعرف الموصل منذ قيامِها ومنذ أكثر من مئة
عام اجتياحاً مذهبياً مماثلاً، و بعدما عاشت وتعايشَ مسلموها مع مسيحيّيها على مَرّ التاريخ متآخين ومتمسّكين ببلدهم في أقسى ظروف الحرب.
ولعلَّ الصرخة المدوّية التي أطلقها بطريرك السريان الأرثوذكس مار إغناطيوس أفرام الثاني من دير العطشانة كانت نافرةً على الآذان العربية وجديدة، إذ لم يسبق أن احتدّت البطريركية السريانية في وجه «داعش» وتوابعِها ومؤيّديها وداعميها حتى في عزّ أيّام اختطاف مطرانَيْها. فلماذا الآن؟
يقول البعض إنّ المسيحيّين الأصليّين استشعروا بقرب الخطر العملي والحقيقي مع النزوح المفزِع لمسيحيّي الموصل التي أصبحت صحراء تامّة، بعدما كانت شبه صحراء وبعدما فرغَت من مسيحيّيها، فيما تؤكّد عائلات مسيحية ما زالت في المستشفيات لأنّها من ذوي الاحتياجات الخاصة وغير قادرة على الترحال، أنّ «داعش» لا تُخيّر المسيحيّين بإشهار إسلامهم أو الرحيل أو دفع جزية كما يُشاع في الإعلام، إنذما تُخيّرهم بين الإسلام أو السيف فقط، فيما تُقرّ عائلة مؤلّفة من 12 شخصاً ما زالت عالقة في إحدى مستشفيات الجوار أنّ البعض غادرَ بما عليه من أمتعةٍ فقط، بعدما كمَنت لهم «داعش» وأجبرتهم على ترك كلّ ما يملكون وأبعدتهم سيراً على الأقدام وسط الصحراء.
أمّا اجتماع البطاركة اليوم في حضور مطارنة السريان والأرثوذكس والسفير العراقي رعد الألوسي والقنصل العراقي وحشد من رجال الدين، فقد حرَّك الساحة السياسية الداخلية، وحتى الإعلامية نوعاً ما، بعدما غفلَت الأهمّية القصوى لتوحيد الصرخة في وجه «الداعشيين» ومَن يدعمهم، فيما حرّك توجيه اللوم إلى المسلمين والحكّام الصامتين بعضَ هؤلاء وحفّزهم للتحرّك والإدانة، وقد حذا حذوَهم بعض السياسيين، فسارَع إلى الاستنكار والمطالبة بيوم توحيديّ مماثل لليوم الإعلامي المرئي التضامني مع أهل غزّة، وخصوصاً بعد مطالبة البطريرك افرام الثاني بعدم الاكتفاء بالصمت، لأنّه ليس علامة إدانة، إنّما علامة قبول، مُحذّراً الأنظمة العربية والغربية التي تموّل «داعش» وتدعمها بأنّها سترتدّ عليها عاجلاً أم آجلاً.
شهادات
العراقيون الذين تمكّنا من مكالمتهم عبر الهاتف، لجأوا إلى إقليم كردستان في الشمال بعدما أُكرِهوا على مغادرة منازلهم وتركِ مقتنياتهم وسياراتهم. ويقول أ. مهران لـ»الجمهورية» إنّهم قصدوا المنطقة الحدودية القريبة والأكثر أمناً، لكنّهم ليسوا خائفين لأنّهم لا يخافون قتلَ الجسد، وأنّهم يفضّلون الموتَ على اعتناق الإسلام «الداعشي».
أمّا عن دمغ «داعش» منازلَ المسيحيين بحرف النون، فيشبّه مهران ذلك بأفعال النازيّين، شاكراً المتضامنين معهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وخصوصاً المسلمين العراقيين وغير العراقيّين الذين نشروا حرف «ن» باللون الأحمر الداعم لمسيحيّتهم على صفحاتهم الخاصة بكتابة عبارة كلّنا مسيحيو»ن».
وبعدما علت صرخة البطريرك افرام الثاني أمس مُحذّراً من أنّ العراق يخسر وجوده المسيحي بعد تهجير ثانٍ خلال عشرة أعوام، هبَّ السياسيّون لإعلان تضامنهم، فيما المطلوب هو أفعال وليس تصاريح، أسوةً بتحرّك المجتمعين في العطشانة بعد قرارهم تأليفَ وفدٍ رسمي يتوجّه إلى الأمم المتّحدة من أجل حلّ القضية.
وفيما سأل البطريرك: أين السُنّة المعتدلون من «داعش»؟ جاء الردّ سريعاً على لسان مفتي الشمال مالك الشعّار الذي اتّصلت به «الجمهورية»، فكشفَ أنّه سيقصد اليوم البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي ليقولَ كلمةً تليق بالقضية، فهو لا يريد التقليل من أهمّية الأمر من خلال الاستنكار ببضع كلمات، ومن المتوقّع أن تكون كلمته تصعيدية وشديدة اللهجة. عكس السفير العراقي الذي لم يستجِب لاتّصالنا، لتوضِح المتحدثة بإسمه أنّه لا يعطي مقابلات صحافية، على رغم الوضع المتأزّم في الموصل!
الميس لـ «الجمهورية»
أمّا عن عدم تحرّك السُنّة لمواجهة ما يعيشه مسيحيّو الموصل، فقال مفتي زحلة والبقاع الشيخ خليل الميس لـ»الجمهورية»، «إنّنا عايَشنا المسيحي منذ 1400 عام، فيما «داعش» الآتية من خلف البحار هي مخابرات دوليّة وليست محَليّة.
وإذ أكّد «أنّ مفتاحين فقط سُلّما في التاريخ، هما مفتاح بيت المقدس ومفتاح الكعبة الشريفة احتراماً لمشاعر المسيحيّين»، جزم بأنّ «الإسلام لا يعترف بـ»داعش» ولا بمخابراتها التي تقتل المسلمين قبل المسيحيّين». وأضاف: «لا أحد يزايد علينا. لقد عشنا مع أهل الكتاب في القرآن والطبيعة، وتزوّجنا منهم ونأكل ذبيحتَهم».
أمّا عن الخطوات التنفيذية التي دعا إليها البعض، وعدم الاكتفاء بالشعر والخطابات، فتمنّى الميس على المسلمين والمسيحيّين «عقدَ مؤتمر – قمّة»، مُعلناً استعداده للمشاركة. وأعلن «أنّنا مذهولون لما يحصل في العراق»، محمِّلاً المسؤولية إلى الغرب «الذي لا يريد للعالم العربي أن يعيش سويّاً بسلام، ليُبرّر لإسرائيل عزلتَها»، متمنّياً على «القمّة المرجوّة اتّخاذَ مواقف جريئة»، مستعيباً بقاءَهم صامتين.
مفتي صور
بدورِه، أكّد مفتي صور وتوابعها مدرار الحبال، أنّ الإسلام يستوعب البشرية ويقوم على الحوار واحترام الآراء المختلفة، لأنّ الله لو شاء لجَعلَ الناس جميعاً على دين واحد هو الذي يحاسب، موضحاً «أنّهم يدعون خلال خطبِهم الشبابَ وينبّهونهم دائماً لعدمِ الانجرار إلى الدين المتطرّف، وهذا ما يفعلونه عمَلياً لتحصين الداخل والتضامن مع الديانة المسيحية»، مطمئناً «أن لا آذان صاغية لدى شباب صور والجوار للأصوات الداعشية ومثيلاتها»، جازماً بأنّ «الإسلام بريء ممّا يحصل مع مسيحيّي الموصل ومن الاعتداءات على الديانات المختلفة».
الخريطة… وواقع التاريخ
تشير إحصاءات الهيئة العليا لشؤون النازحين إلى أنّ عدد العراقيين المسجّلين بعد أحداث العراق الأخيرة عام 2003، بلغ 7000 عراقيّ مسجّل رسمياً، فيما لم يسجّل حتى اليوم نزوح العراقيّين الجدد نتيجة هجرة مسيحيّي الموصل، علماً أنّهم كانوا يأتون في السابق من البرّ عبر سوريا، لكنّ الوضع الأمني السائد في سوريا اليوم سيعيقهم، ما يضعُهم أمام الحلول الآتية:
1 – إمّا انتقالهم بالطائرات من اربيل إلى لبنان.
2 – إمّا بقاؤهم في المنطقة الأمنية في إقليم كردستان، بعدما أحسنَ الأكراد معاملتهم واستضافهم.
3 – إمّا السَفر خارج البلدان العربية كأوستراليا وأميركا بعد الاتصال بأقاربهم ومعارفهم، خصوصاً المتمكّنين مادياً.
وتؤكّد مصادر من الهيئة العليا لشؤون النازحين والمهجّرين أنّ لبنان سيَعيش أزمة فعلية نتيجة استقبال أعداد كبيرة من النازحين العراقيّين بعد النزوح المليوني للنازحين السوريين.
في المحصّلة، يبقى القول إنّ مساعدة النازحين على التشبُّث بأرضهم يظلّ الحلّ الأمثل لعدمِ تفريغ العراق من الوجود المسيحي وإفشال مهندسي الخريطة الجديدة للشرق الأوسط في تفريغه من المسيحيّين وتغيير واقع التاريخ.
المسيحيّون قلب الشرق
أمّا ما يمكن أن نفعله اليوم درءاً لهذا التطهير الفاضح الذي لم يعرفه المسيحيّون منذ 100 عام، فإنّه حتماً حَضُّ مجلس الأمن الدولي الذي دان اضطهاد مسيحيّي العراق، على العملِ لعودتهم إلى ديارهم والتشبُّث بأرضهم، لأنّ العراق بلا مسيحيّين سيكون مشوَّه الوجه ومبتورَ الهوية.
أمّا مجلس الأمن اللبناني فتذكّرَ فقط توحيد نشرات إخبارية فولكلورية، لا تُعيد سلاماً إلى القدس الشجاعة، لأنّ للقدس سلاماً آتياً من سيّد السلام وليس من سائر الأسياد، في وقتٍ نسيَ مجلس الأمن اللبناني مناجاة مسيحيّي الموصل ونسيَ أن لا رئيس لديه ليطالبَه بإسم الشعب الاحتجاج، ونسيَ أنّ النشرة اللبنانية الموحّدة الأولى لشهداء غزّة ولمسيحيّي الموصل كان يجب أن تبدأ من قصر بعبدا وتبقى هناك ولا تنتهي قبل انتخاب سيّد للقصر… حينئذٍ فقط يصبح للوقفات التضامنية معنى وللنشرات الموحّدة والأصوات المبحوحة… صدىً.