الاتفاق الذي كشف النقاب عنه مع شركة «سما» بحجّة تمكين اللبنانيين من مشاهدة مباريات كأس العالم مجاناً، ليس فريداً، شأنه شأن الكثير من الاحتكارات والامتيازات التي تحظى برعاية الدولة وحمايتها. فالدولة لم تتدخل هذه المرّة إلا لإنقاذ الشركة من الخسارة، ولو تطلب ذلك التضحية مجدداً بتلفزيون لبنان وهدر المال العام.
شركة واحدة اسمها «سما» كانت قادرة على تركيع كل اللبنانيين. هي الوكيل الحصري في لبنان لـ«beIN sports»، التي تحتكر حقوق بثّ مباريات كأس العالم. وهي أيضاً الشركة التي أنقذها ثلاثة وزراء بتوجيهات من رئيس الحكومة، من خسارة كبرى بعدما تبيّن أن مبيعاتها لبطاقات الاشتراك وأجهزة الاستقبال متواضعة. صفقة الوزراء الثلاثة مع «سما» التي حصلت على تعويض مالي بقيمة 3 ملايين دولار، ومحاولتهم تحويل هذا الأمر إلى انتصار لمصلحة اللبنانيين، كشفت عن سلطة خائبة تسعى إلى التفريط بالخدمات العامة بأي ثمن، ولا توفّر فرصة لابتزاز الفقراء وإخضاعهم لأصحاب الكايبل غير الشرعي، بدلاً من دفع التعويض المالي لشراء حقوق بثّ المباريات عبر تلفزيون لبنان الذي يصل إلى كل منزل.
الاتفاق ــ الصفقة
ما أتُّفق عليه بين الحكومة اللبنانية وشركة «سما»، لا يمكن تسميته اتفاقاً، بل هو صفقة على المكشوف أنجزها رئيس هيئة «أوجيرو» عبد المنعم يوسف بطلب من وزير الاتصالات بطرس حرب، ومشاركة وزيري الشباب والرياضة عبد المطلب حناوي، ووزير الإعلام رمزي جريج، بتوجيهات رئيس الحكومة تمام سلام. وبنتيجة هذه الصفقة، كما أعلنها حرب في مؤتمره الصحافي أمس، يجب على شركة سما أن تؤمن «مشاهدة مباريات كأس العالم لكرة القدم لجميع اللبنانيين في كل المناطق اللبنانية ابتداءً من هذه الليلة (أمس) عبر شركة سما وكافة موزعي المحطات التلفزيونية بواسطة الكابل، مجاناً ومن دون أي بدل. تلتزم شركة سما تأمين البطاقات والتجهيزات الضرورية وإعطاء الأذونات والرخص اللازمة ابتداءً من ظهر هذا اليوم (أمس) إلى جميع موزّعي ومورّدي هذه الخدمات، وذلك بشكل مجاني أيضاً». وأوضح وزير الاتصالات أن قسماً من المبلغ الذي سيُدفع لشركة «سما» تأمّن من خلال «شراكة مع MTC وALFA».
في الواقع، إن هذا الاتفاق ــ الصفقة، يثير العديد من التساؤلات المشروعة التي عبّر عنها رئيس مجلس إدارة تلفزيون لبنان طلال المقدسي أثناء المؤتمر الصحافي عندما أعلن أن تلفزيون لبنان سيبثّ المونديال، ولو كلّفه الأمر استقالته. فلماذا لجأت الدولة إلى أصحاب محطات الكايبل واستثنت تلفزيون لبنان من هذه الصفقة، رغم أنه المحطة الأكثر نفاذاً إلى كل اللبنانيين؟ لماذا رضخت شركة «سما» لمطلب الحكومة بعد أيام على انطلاقة المونديال؟
تعويضات «سما»
يؤكد المقدسي، لـ«الأخبار»، أن قيمة التعويض المالي الذي حصلت عليه «سما» يبلغ 3 ملايين دولار، أي أقل بنحو مليون دولار من قيمة عقدها مع «beIN sports». سبب الاتفاق على هذا المبلغ فقط هو أن «شركة سما باعت (اشتراكات لمشاهدة البثّ) خلال شهر واحد ما تفوق قيمته مليون دولار بأضعاف، وبالتالي لم تعد شركة متضرّرة».
غير أن هذا الاتفاق، يدفع المقدسي إلى طرح إشكالية من نوع آخر: «بما أن هدف الدولة من صرف هذا المبلغ، هو إيصال المونديال إلى كل بيت في لبنان، فإن الوسيلة الوحيدة لتحقيق ذلك، هو تمكين تلفزيون لبنان من بثّ المونديال، لأن شركات الكايبل النظامية لا تغطي أكثر من 20% من الأسر اللبنانية، والباقون سيكونون قادرين على مشاهدة المونديال عبر أصحاب محطات الكايبل غير الشرعيين، أي إننا ذهبنا في اتجاه قوننة هؤلاء فيما كان لدينا بديل هو تلفزيون لبنان».
إذاً، لماذا موزّعو المحطات التلفزيونية وأصحاب الكايبل بدلاً من تلفزيون لبنان؟ هل يبثّ تلفزيون لبنان المونديال؟ وكيف؟
إزاء عدم وجود ضرر تجاه شركة «سما»، فإن الخيارات المتاحة أمام المقدسي كثيرة «لأن هناك أكثر من 12 محطّة تبثّ المباريات مباشرة، وقد حررني الاتفاق مع الشركة من مطالبتها بالضرر في حال قيامنا ببث المباريات، وبالتالي يمكن إعادة بثّ المباريات، لكننا سنبحث عن الطريقة الأفضل للقيام بهذا الأمر».
والإصرار على أن يكون أصحاب الكايبل وموزعو المحطات التلفزيونية هم الجهات التي ستمنح حق بث المونديال ينطوي على الكثير من الشبهات، وخصوصاً أن «سما» كانت قد باعت خلال الأسابيع الأخيرة الكثير من الاشتراكات في بث المونديال للأفراد والمؤسسات السياحية من مطاعم ومقاهٍ وسواها. وبالتالي، إن بث المونديال عبر أصحاب الكايبل وموزّعي المحطات لن يثير نقمة كبيرة، لأن قسماً كبيراً من هؤلاء كان يبث المونديال من لحظاته الأولى وفي مختلف المناطق اللبنانية والأحياء المحمية من مراكز النفوذ والقوى المحلية. أما بثّ المونديال عبر تلفزيون لبنان، فهو أمر سيثير نقمة كبيرة على شركة سما من زبائنها الذين سددوا مبالغ كبيرة للحصول على حقوق مشاهدة المونديال… هكذا يكون «اللي ضرب ضرب، واللي هرب هرب». وبذلك يكون الاتفاق مع أصحاب الكايبل أقل الأضرار بالنسبة إلى شركة سما، ومحقِّقاً لمصلحتها.
من المستفيد؟
المعطيات المالية للشركة تؤكد أن الصفقة مع الدولة اللبنانية جاءت لمصلحة الشركة بالكامل، تماماً كما يحصل في الاتفاقات الموقعة بين الدولة وشركات القطاع الخاص الاحتكارية. حالة «سما» ليست فريدة في لبنان، بل هي الحالة التي تكون فيها الدولة اللبنانية مجنّدة لخدمة مصالح إحدى الشركات التي يتردّد كثيراً أنها تحصل على حماية من مراجع سياسية.
وبحسب المعلومات، فإن الصفقة تُخرج «سما» من أزمة خافتة ظهرت قبل أيام من بدء المونديال. هي أزمة ناتجة من ضعف مبيعات بطاقات اشتراك بثّ المونديال التي لم تتجاوز 10% من توقعاتها. وبالتالي، إن أصحاب الشركة كانوا جاهزين لعقد اتفاق يعيد لهم جزءاً من المبالغ التي كان مقدّراً جمعها من خلال بيع الاشتراكات في البثّ، ولا سيما أن الرئيس التنفيذي لشركة سما، حسن الزين، كان قد صرّح لـ«الأخبار» قبل إعلان الاتفاق، بأن «الأنباء التي جرى تداولها عن حصول تلفزيون لبنان على حقّ بث المونديال، سببت لنا خسائر كبيرة».
واللافت أن «سما» رفضت إعلان الاتفاق مساء أول من أمس، وأوضحت في أكثر من بيان أنه ليس هناك أمر جدّي في المفاوضات… لكن تفسيرات المطلعين على السوق، هو أن الشركة كانت تسعى إلى زيادة مبيعاتها قبل إعلان الاتفاق، لأنه بمجرد إعلان الاتفاق توقفت عمليات البيع.
سما هي الرابح الأكبر من هذا الاتفاق، أما اللبنانيون الذين سيدفعون هذه الكلفة من جيوبهم، وإن دفعتها شركتا الخلوي، فإن هذه الأموال ستكون مبالغ فائتة على الخزينة اللبنانية. وبحسب مصادر معنية، فإن وزير الاتصالات طلب من شركتي الخلوي تقاسم الكلفة بمعدل مليون ونصف مليون دولار من كل واحدة منهما، على أن تُسجل في حسابات الشركتين كإنفاق على «التسويق»، وهو «تحايل» على قانون المحاسبة العمومية أوجدته التعديلات التي أدخلها وزير الاتصالات السابق نقولا الصحناوي على الاتفاقيتين مع الشركتين المملوكتين من الدولة.