يبحث وزير الخارجيّة الأميركي جون كيري عن الأصدقاء لإعادة ترميم وشائج الثقة. إنّه في مصر لفتح صفحة مع الرئيس عبد الفتاح السيسي بعد التعاطف الكبير مع «الإخوان». إنه في بغداد لحضّ نوري المالكي على تأليف حكومة المصلحة الوطنيّة، وهو يدرك أنّ بعض القرار في طهران حيث الحسابات مختلفة. إنّه في الرياض التي سبقه اليها صديقه اللدود سيرغي لافروف.
لم يُفاجَأ كيري بالمتغيّرات، إنها محسوبة بدقة، لكنّ إعادة السيطرة عليها عمليّة معقدة. جاء الرئيس جورج دبليو بوش الى بغداد بدبّابته لينهي حكم الطاغية وينشر الديموقراطيّة، وعندما خرج تركها دماراً، وفي إعتقاده أنه المقاول الوحيد القادر على أن يبني، ويتحكّم بمردودات النفط. في العراق اليوم أكثر من مقاوِل: هناك الإيراني، والتركي، والروسي، وآخرون.
يذهب العراق على وقع «الداعشيّة» نحو التقسيم. قد يكون هذا المطلوب وإلّا كيف يُقدِم بول بريمر على حلّ الجيش وتسريح الضباط والأنفار بإسم القضاء على «البعث». اليوم تنبعث الفتنة مجدداً، يُسعّر التقسيم الحروب المذهبيّة، وهذه إن تفاقمت ستدقّ أبواب الخليج. تحذير الرئيس الإيراني حسن روحاني من سياسة «البترودولار» كان واضحاً، وصلت الرسالة الى حيث يجب أن تصل، وأصبح التقارب السعودي – الإيراني أمام إمتحان جديد.
لم تعد الحفاوة حكراً على الأميركيّين في المملكة. لم يعد كيري وحده في الرياض، هناك خطّ جديد إفتتحه الأمير بندر بن سلطان مع موسكو، ودشّنه وزير الخارجيّة الأمير سعود الفيصل عندما نقل رسالة من الملك عبدالله بن عبد العزيز الى الرئيس فلاديمير بوتين، وردَّ الأخير بأخرى جوابيّة نقلها لافروف.
هذا الإنفتاح لا تَستسيغه واشنطن، ولكنَّ البركان السوري أعاد رسم الحسابات. لم يكن من المتوقع أن يصبح الروسي الرقم الصعب في سوريا ويستخدم حق النقض «الفيتو» أربع مرات في وجه المشروع الأميركي – الغربي. لم يكن من المتوقع أن يصبح الإيراني رقماً صعباً في المعادلة السوريّة. كان همّ الخليج بقيادة المملكة إسقاط النظام، فأصبح همّها الآن إخراج «حزب الله» من سوريا. كان الرهان على إسقاط الأسد، ضُربت مواعيد، وطُرحت سيناريوهات لتنحيته، وإذ به يُكرّس بقاءه لولاية ثالثة.
راهنت السعوديّة على دور أميركي في العراق يحفظ لها المكانة، فإذا بطهران تتقدّم وتصبح صاحبة الثقل والتأثير. راهنت على رافعة أميركيّة تزيح الأسد، ليصبح لها دور وازن، فإذا بالإيراني يصبح شريكاً في الأزمة، وشريكاً في الحل. عاد سعود الفيصل يتحدث مع لافروف عن بيان جنيف – 1، وإمكان تأليف حكومة وحدة وطنيّة لإطلاق مسار سياسي تغييري، وإذ بالرئيس باراك أوباما يعطي جرعة مقويات للنظام عندما يَنفي «وجود معارضة معتدلة قادرة على هزيمته».
وشرّ البليّة ما يضحك: البعض يُحذّر رعاياه من المجيء الى لبنان. المعادلة بسيطة، إذا كان خوفهم من «داعش»، فهم مَن يقف وراء هذا التنظيم دعماً وتمويلاً وتسليحاً، أما إذا كان الخوف من المخابرات السوريّة المتغلغلة تحت عباءة النزوح الكثيف المنفلش على مساحة الوطن، فهو مشروع ومبرّر، لأنّ الفعل يستدرج ردّ فعل، والذي دعم وموَّل لتصل الأمور الى ما وصلت اليه، عليه أن يكون شريكاً في النتائج أيضاً.
فالتمويل معروف والرصيد مكشوف، ولا أحد يستطيع التذاكي على أحد، والذين صعدوا الى القطار للمساعدة على إحداث التغيير معروفون بالأسماء والأرقام والهويات، وجاء «الربيع العربي» بشعاراته البرّاقة، وتورّطت دول وأنظمة وصناديق، إلّا أنّ التغيير لم يحصل لأنّ المصالح الدولية فرضت أن يصل الى ما وصل اليه الآن. إيجابية وحيدة يمكن أن تحصل وهي أن يسرّع التأزيم الإقليمي إنضاج طبخة الإستحقاق الرئاسي، قبل أن يصبح النظام السوري «الشيف» الرئيس في المطبخ؟!