في العام الأوّل من ثورات «الربيع العربي»، كما ذاعت تسميته، جرى التسويق لأطروحة من قبيل «إنّ الشعوب المتحرّرة من الاستبداد ستكون أكثر قدرة على خدمة قضية فلسطين من الشعوب الرازحة تحت نير الاستبداد».
طبعاً كانت ثمة طبعتان من هذه المقولة. واحدة «شعبوية» ترى أن سقوط منظومة الاستبداد له أن يدفع الشعوب المتحررة نحو المزيد من الجذرية في الصراع العربي – الفلسطيني قولاً وفعلاً. وطبعة «ليبرالية» ترى أن سقوط منظومة الاستبداد سينشر ثقافة سياسية جديدة قائمة على المصالح النفعية، بحيث تصير المطالب أكثر واقعية، ووسائطها أكثر واقعية، ويصير تحقيقها ميسّراً أكثر، لما فيه إنضاج عملية التسوية في الشرق الأوسط.
يبدو اليوم أنّ معادلة «حرية فلسطين» الجزئية أو الشاملة من «حرية العرب» الجزئية أو الشاملة قد سُحِبَت من التداول، بطبعتيها، الشعبوية والليبرالية. فقد تراجع الربط بين وقائع التغيير وآفاقه في البلدان العربية وبين مسار النزاع بين الإسرائيليين والفلسطينيين حتى إذا وقع العدوان الحالي لُفّقت أنواع باهتة من الإسقاطات والتشبيهات، يتبارز فيها من ينحو باللائمة على حركة حماس وانعزالها، إما عن منظومة الممانعة وإما عن منظومة الاعتدال العربيين، من دون ان يتكلّف أحد استذكار ذلك الربط الذي انتشر في أول الربيع العربي بينه وبين ربيع الفلسطينيين، والذي يظهر الآن أنه استخدم لمرة واحدة وأخيرة يوم نجحت مساعي إيقاف العدوان السابق، من دون أن يكون لهذا الربط أي دور بلاغي أو خطابي في الجهود العاملة على وقف العدوان اليوم.
بطبيعة الحال، من أراد المكابرة سيجد منفذاً للقول بأنه لما كانت شعوبنا لم تحقق ديموقراطيتها بعد فإن الربط بين ربيع العرب وبين ربيع الفلسطينيين صحيح إنما كمشروع مستقبلي نفتقد اليه في الزمن الحاضر.
ومن أراد الانصراف الى تشاؤمية بليدة ذهنياً، هي عادة التي تطبع المتفائلين بما يتجاوز البنى والمسارات والوقائع في مرحلة أولى، تراه بدلاً من ذلك ينصرف الى الوضعية والتاريخانية في أسوأ أشكالهما. الوضعية بما تعنيه هنا من تفتيش عن «واقع واقعي»، واقع خالٍ من الوهم والأسطورة والخيال، وهذا هو الوهم المحض في الأساس. والتاريخانية من حيث تعني ردّ أسباب تقهقر الربيع العربي الى عوامل مزمنة لا يمكن تقويمها ببضع سنين، وهذا تبرير يمكنه أن يفتح المجال على ركوب أي موجة يريدها المرء، وعلى إنكار الجانب التقريري من السياسة، للغوص في «البنى العميقة» وافتعال النواح الدراميّ والنعيق كالبوم.
في المقابل، تبدو لحظة العدوان الإسرائيلي الدامي على الفلسطينيين اليوم بمثابة لحظة صادمة تحيل الى أشياء كان في ودّ الكثير منّا جعلها وراءنا.
منها أنّه مهما كانت أخطاء وخطايا الحركة التحررية الفلسطينية فإن توهّم أن الفلسطينيين كانوا سينعمون بالرفاه والطمأنينة والسلام اليوم لو جرى تجنّب هذه الأخطاء والخطايا هو ابتذال محض. كان يمكن للفلسطينيين تحسين شروط مواجهتهم هذا أكيد. أما أنه كان يمكن لهم انتزاع الذات من نهر العذابات فهذا افتراء محض.
ومنها أنه ليس هناك ربط عضوي تام بين خوض الحروب وبين نوع الأنظمة السياسية سواء كانت ديكتاتورية أم ديموقراطية. طبعاً، المشروعية أساسية لتمكين نظام ما من خوض الحرب أو الانتقال الى السلام، وهذه المشروعية يمكن تأمين شروطها أكثر في ظل الأنظمة الدستورية التعددية مما في ظل الأنظمة الاستبدادية. لكن لا حتمية ولا ربطاً عضوياً في هذا المجال. هناك أنظمة انتصرت في حروب وطنية وهي تعتنق أيديولوجيات توصف بالشمولية. وهناك حكومات انتصرت في حروب ضروس وهي تلتزم إجراء الانتخابات في مواعيدها في عزّ القصف.
الأمر الثالث هو أنه قد «جرى رمي الطفل مع مياه الغسيل الوسخة» حين أطلق العنان للشهوة الاستئصالية لكل ما هو «مشتركات قومية» عربية بحجة أنها من مخلفات الأنظمة الاستبدادية القومية العربية، وهذا ما تقاطع مع وضعية استطاعت فيها إيران الجمع بين انتمائها القومي وبين انتمائها الديني المذهبي. في حين حدث العكس عربياً: مسخ القومي مذهبياً، وأثننة ما هو مذهبي. وهكذا صرنا نرى مفارقات منها أن مثقفين عرباً يتباهون بعدميتهم القومية كعرب في حين يزايدون على الأكراد في القومية الكردية، في حين أن التفتح القومي المتبادل كان وسيبقى سبيل التفاعل العربي الكردي السوي. وفي الإطار الشامل، أدّى تبخيس المشتركات القومية حقها بحجة الحفاظ على الكيانات الوطنية وتحقيقها كدول – أمم منفصلة تماماً الى تسهيل عملية تفتيت هذه الكيانات، لأنه غاب عن البال أن المشترك القومي العربي هو أيضاً مكون بنيوي لكل من هذه الكيانات، ويوازن في الكثير منها المضاعفات المستمرة للمبضع الاستعماري.
في عصر تزدهر فيه الفكرة القومية من جديد، ولو أخذ ذلك أشكالاً خطيرة من مثل تنامي اليمين المتطرف من أوروبا حتى إسرائيل، وتلاشي الثوب الديموقراطي في روسيا لحساب الطروح الامبراطورية والاوراسية، ومشاريع صهر القومي بالديني في الهند وإيران، لم تعد هناك مصلحة في الاسترسال في نبذ كل ما هو مشترك قومي عربي، بل العكس، وهنا تبقى علامة الاستفهام مفتوحة: هل بالإمكان إبداء قول نافع في قضية فلسطين، يتجاوز ثنائية الممانعين والعدميين؟ يمكن ذلك عندما نستعيض عن العلاقة السببية «حرية فلسطين من حرية العرب» أو «حرية العرب من حرية فلسطين» بالإقرار، بأنه، لا يمكن أن تزدهر الحرية في البلدان العربية ويعلّق بها الفلسطينيون كـ«تحصيل حاصل».