ولي العهد يلبي طلب شريف بإعادة عسيري
العودة السعودية إلى بيروت.. «فك اشتباك» مع طهران
غداة وصول السفير السعودي علي عواض عسيري، بعد أشهر من الغياب وعلى مسافة ثلاثة أسابيع من انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان، استقلّ السفير الاميركي دايفيد هيل الطائرة متّجها نحو الرياض.
كثر اعتقدوا للوهلة الأولى ان عودة عسيري الى بيروت ستدشّن الدخول المباشر للسعودية على خط المفاوضات الرئاسية داخليا، لكن رؤية هيل في السعودية أعطت إشارات واضحة بأن لا تعويل على حراك الداخل. المسألة برمّتها خارج الأراضي اللبنانية.
موقف عسيري من عين التينة بعد لقائه الرئيس نبيه بري لا يحتاج الى الكثير من التأويل. شدّد على «موقف المملكة وحرصها على الاستقرار في لبنان والتوافق بين اللبنانيين»، مؤكدا «ان اختيار الرئيس الجديد يعود للبنانيين أنفسهم». هي اللازمة الديبلوماسية التي تعني أن لا توافق خارجيا بعد على هوية الرئيس المقبل.
عقد عسيري لقاءين مع بري ورئيس الحكومة تمام سلام منذ يوم العودة في الثاني من أيار، وثمة مزيد من الاجتماعات تشي بأن عسيري ليس في قلب اللعبة الرئاسية بمقدار ما هو مواكب لها أو متفرّج عليها. يعارض سفير السعودية المراهنين على مآل التفاوض السعودي – الايراني، متمنّيا انتخاب رئيس على نهج ميشال سليمان الحيادي.
تزامنت مغادرة عسيري مع الانفجار الانتحاري المزدوج الذي استهدف مقرّ السفارة الايرانية في بئر حسن في تشرين الثاني الماضي. اتهم الايرانيون بلسان سفيرهم غضنفر ركن أبادي اسرائيل بالتفجير، لكن كان لـ«حزب الله» رأي آخر.
السيد حسن نصرالله قدّم مقاربة مختلفة تماما. السعودية التي تواجه، برأيه، «بالواسطة» في العراق وسوريا ولبنان، وقفت مخابراتها وراء التفجير. أما «كتائب عبدالله عزام» فهي أداة التنفيذ. رأى «حزب الله» في المشهد الدموي في بئر الحسن تعبيراً عن الغضب السعودي بسبب فشل مشروع معين في المنطقة.. وتقدم مشروع آخر. ترافق ذلك مع جوّ منظّم من الشائعات أوحى باحتمال تعرّض مقرّ السفارة السعودية لهجوم إرهابي ردّا على تفجير بئر حسن.
لاحقا أوحى رَد الرئيس سعد الحريري على اتّهام السيد نصرالله له بالتورّط في إرسال المسلحين الى سوريا، بكسر الجرّة. كرّر الحريري مرّة أخرى اتهام الحزب بجريمة العصر في 14 شباط 2005، وبمسوؤليته المباشرة عن «تفجير الحياة المشتركة بين اللبنانيين عموما والسنّة والشيعة خصوصا»!
قيل الكثير عن احتمال إقفال السفارة السعودية لأسباب أمنية، لكن الطاقم الديبلوماسي واصل عمله في ظل إجراءات أمنية استثنائية، فيما تولّى القائم بالأعمال السعودي عبدالله الزهراني إدارة «الحضور» الديبلوماسي لبلده في بيروت، مواظبا على لقاء العديد من القوى السياسية اللبنانية.
توقّعات المتشائمين لم تصحّ. سرعان ما انقلبت المعادلات. وكما غادر عسيري على وقع الدعوات لمغادرة الرعايا السعوديين الاراضي اللبنانية، فإن عودته تناغمت مع نبرة تشجيعية للخليجيين بوجوب العودة الى بيروت، رابطا تلك العودة بنجاح الخطة الامنية.
صحيح ان السفير السعودي ترك البلد الذي يحبّ مع غلّة من كسر الحواجز والتقارب مع ميشال عون، إلا أن الحرب التي كانت مستعرة في القلمون السوري، والمسافات «الضوئية» التي كانت تباعد يومها بين طهران وواشنطن، وسوريا والمجتمع الدولي، والسعودية وايران، كانت تجعل من هذا التفصيل الصغير مجرد دعابة.
اليوم باتت الصورة أشبه بمن يصفق لانقلاب برضى الجميع. وتحت هذا السقف عاد عسيري، ومعه قد «يولّعها» الخليجيون في الصيف المقبل.
ما كان مجرّد أوهام يوم كانت حكومة نجيب ميقاتي تعمل بـ«شقّ النفس»، بات ممكناً.. وأولى بذوره ليس حكومة تمام سلام، بل ما تنجزه من خطوات، خصوصا في المجالين الأمني والاداري.
وها هو الغرب يوقّع اتفاقا انتقاليا مع ايران (تنتهي مهلته في 20 تموز المقبل) سيمهّد لتفاهم نووي نهائي بين ايران ومجموعة الدول الست. السعودية تجرّم كل من يقاتل خارج أراضيها وتعبئ «الفراغات» على لائحتها للإرهاب، استعداداً لاستقبال الرئيس الاميركي باراك أوباما. الدبّ الروسي يستمر في عروض «نفخ العضلات». بشار الأسد يترشّح لولاية رئاسية ثالثة من دون ممانعة دولية يحسب لها حساب. لم يعد أحد اليوم يتكلّم عن سقوط النظام. الجميع مهجوس بمكافحة الإرهاب.
مع ذلك، الثالثة لم تكن ثابتة في مجلس النواب. لم يكن أحد يتوقع بأن عودة عسيري إلى بيروت في ظل مناخات التقارب الخارجية، كانت تعني التوجّه لاحقا الى ساحة النجمة لمواكبة انتخاب رئيس الجمهورية، من صالة المدعوين، مع باقي زملائه في البعثات الديبلوماسية.
العارفون يقولون إنه ليس لدى عسيري اليوم ما يقوله للبنانيين أكثر مما تقوله السعودية لزائريها. أصلا، تفيد المعلومات بأن إقامة السفير السعودي لن تتجاوز نهاية العام الحالي، بسبب صدور قرار تعيينه سفيرا لبلاده في باكستان خلفا للسفير الحالي عبد العزيز بن إبراهيم الغدير، على أن يؤدي القسم عندما ينهي خدمته في بيروت.
قرار انتقال عسيري لم يكن قرارا شخصيا. أصلا بمجرد انتقاله إلى بيروت صار سفيرا برتبة وزير، وسيبقى محتفظا بهذه الرتبة، أما قصة الانتقال، فيقف وراءها رئيس وزراء باكستان نواز شريف صديقه الشخصي يوم كان ممثلا لبلاده في إسلام أباد، حيث باتت تربطهما علاقة مميزة، فضلا عن احتفاظ عسيري بمزرعة يملكها هناك حتى يومنا هذا.
ووفق المعلومات المتداولة، فإن شريف طلب من ولي العهد السعودي الأمير سلمان بن عبد العزيز، خلال زيارة الأخير لباكستان في 15 شباط الماضي، أن يعيد عسيري إلى مركزه السابق، ووعده الزائر السعودي خيرا..
ويمكن بالتأكيد الربط بين نقل عسيري، العسكري والخبير في الأمن الديبلوماسي، مجدّدا إلى باكستان بعدما كان سفيرا فيها، وتعيين السعودية في بداية العام الحالي الخبير الامني عبد الرحمن الشهري سفيرا لها في طهران.
يراهن عسيري على حكمة اللبنانيين للإتيان برئيس للجمهورية قبل 25 أيار، لكنه يعلم بأن «الأشقاء اللبنانيين» غير قادرين فعلا على لبننة استحقاقهم بغياب الضوء الأخضر الإقليمي. على الأرجح، سيواكب، وهو يتنقّل بين مقارّ القيادات السياسية، إخفاق اللبنانيين في صنع القالب الرئاسي بمفردهم.
لا تقدّم على المسار السعودي الإيراني، يعني لا انتخابات رئاسية قريبة. دمشق، فعلا وليس قولا، أوكلت الى حلفائها تقرير المناسب. رذاذ التقارب بين الرياض وطهران اقتصرت مفاعليه على تأليف الحكومة وضبط الأرض أمنيا، كما سيستمر في إنعاش التفاهم على العديد من الملفات في السرايا الحكومية.
حتى الآن لم تدخل المملكة في لعبة الأسماء. ثمّة من يردّد بأن أحدا من الدول المعنية لم يفاتحها جدّيا بالملف الرئاسي. وكيل الرياض الحصري في لبنان هو سعد الحريري. ترابطت الملفات في المنطقة. من العراق الى لبنان مرورا بسوريا. لذلك، يصبح توقّع ولادة رئيس للبنانيين قبل المهلة الدستورية، أو في المدى القريب، نوعا من السذاجة السياسية.