Site icon IMLebanon

الفوضى ليست بالجغرافيا

بعد ثلاث سنوات من اندلاع «الثورات» تغيّر العالم العربي إلى درجة لا تسمح بالنظر إليه كما في السابق. ليس العنوان الأبرز انهيار معظم الحدود السياسية للكيانات السابقة بل طبيعة القوى الفاعلة في الداخل والخارج. في كل هذه الفوضى يشتبك العرب بالعرب جماعات ودولاً، كما القوى الإقليمية والدولية. المستقبل العربي هو حصيلة هذه التفاعلات كلها وليس مجرد تنفيذ لخطِّة أحد الأطراف مهما كانت قوته وسيطرته. هذه هي تجربة الحرب العالمية الأولى التي أنتجت «سايكس بيكو» وما زلنا بعد مئة عام لا نستوعب دروسها. قليلون ربما الذين يهتمون بأن تلك الاتفاقية اقتصرت في المبدأ على تصفية إرث الدولة العثمانية لمصلحة الغرب وقطبيه بريطانيا وفرنسا. لكن التفاوض حول هذا العنوان امتد من اندلاع الحرب إلى مؤتمر الصلح في باريس عام 1919. وخلال ذلك خرجت قوى ودخلت قوى ونشأت أوضاع ميدانية وتبدلت خرائط كثيرة. ولم تكن سايكس ـ بيكو مجرد عنوان لتقسيم العالم العربي الذي لم يكن موحداً بذاته ولا تحت السلطة العثمانية الكاملة، بل هي إحدى الاتفاقات الاستعمارية لإعادة إنتاج النظام الإقليمي بعد انهيار إمبراطوريات عدة عملياً (الدولة الروسية، والمجرية النمساوية، والعثمانية) وهزيمة ألمانيا، وإلى حد ما بداية صعود الإمبراطورية الأميركية. في جزء أساسي من المشهد آنذاك لم يكن «المشروع العربي» يملك قابلية للتحقيق بسبب الفئات القائدة والسوسيولوجيا العربية آنذاك. وها نحن الآن في المشكلة ذاتها لأننا لا نملك مشروعاً سياسياً لا عربياً ولا إسلامياً طبعاً، لبناء دولة إقليمية بصرف النظر عن حجمها وحدودها، بدليل أن ما لدينا من جغرافيا كيانية يتفتت بين يدينا بأساليب الحكم وإدارة «الدول»، ولو كانت لنا سلطات عسكرية طاغية. ما يريده الغرب منا يحصل عليه بأشكال مختلفة ومن قوى سياسية مختلفة وعبر أشكال من الحكم مختلفة ولا ننسى الإيديولوجيات. لكن ما نريده نحن أو معظم تطلعات الشعوب يخضع لأنظمة استبداد أياً كانت أسماؤها متخذ من «العصبية» ركيزة ومن احتكار السلطة وسيلة. هذه «القابلية» لفكرة «التقسيم» لا تنبع من صعوبات العيش معاً بل من ثقافة الاستبداد والإقصاء والإلغاء والسيطرة.

لم تكن الشعوب العربية منذ حرب لبنان والعراق مع الاحتلال ثم اليمن وليبيا وسوريا والجزائر وتونس إلخ نازعة إلى إنتاج كيانات جديدة بل إلى بناء علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم. وباستثناء الأقليات القومية المضطهدة ومعاناتها الطويلة لم يكن لأحد أن يتصور أو يسعى إلى أنظمة فدرالية (وهي نماذج لشكل من التوحيد) كالذي بتنا نطرحه كمخرج في اليمن وليبيا والعراق وسوريا ولبنان. ومع ذلك لم تكن المسألة في شكل النظام بل في مضمون السلطة ونوازع الغلبة والسيطرة المعنوية والمادية والإلحاق والاستلحاق بالخارج. ولقد صارت المصالح الفئوية تتخذ لنفسها خطاباً عابراً للحدود تهافت أمام نقيضه الآخر.

انشقت المنطقة بين المطالبين بالتغيير وبين المدافعين عن الواقع الجيوسياسي القائم. فلا التغيير الذي حصل يؤدي الحاجات والوظائف المطلوبة، ولا المعطى الجيوسياسي حافظ على الحد الأدنى مما أراد المدافعون عنه. وها نحن في أزمة التشوهات الكبرى لصورة المنطقة وقواها وهويتها وإمكاناتها ومناعتها.

ليس صحيحاً أن الحركات المسلحة في طول المنطقة وعرضها تملك قرارها المستقل ولا حتى الأنظمة التي تدير هذا الصراع الدموي الرهيب. ففي كل يوم نسمع عن أشكال المساعدة المقدمة أو المطلوبة لهذا أو ذاك من الأطراف. فالخشية هنا على أهمية ذلك ليست من قدرات الشحن الذاتي الديني أو الطائفي ولا من الموارد التي تتحصل من نهب مناطق السيطرة، بل هي من إمدادات الدول صاحبة المصلحة في بلوغ المنطقة حد الاستسلام لأي صياغة كبرى للنظام الإقليمي الجديد. ولعلنا نعرف كيف تبدلت مواقف الدول الكبرى في رؤيتها للفاعلين في المنطقة وأدوارهم. لذلك يجب التحفظ دائماً على إطلاق الأحكام النهائية حيال المواقف التي تنطوي على إغراء أو تهديد أو على محاولات الاحتواء التي نجحت إلى حد بعيد في جذب المتنافرين للتعاون ليس فقط في الميدان بل في الاشتراك بالنظرة إلى التحديات والأخطار.

فالأساس يبقى كيف يمكن للعرب أن يعيدوا تأسيس مشروعهم بما هو استجابة للحاجات التي رفعتها حركات الشعوب قبل أن تتم مصادرتها وتحويرها. ففي حمأة هذا العنف المعنوي والمادي الذي استُدرجت إليه حركات التغيير ظهرت أولويات مختلفة وتشكلت مراكز قرار خارج السياق الذي بدأت به الحركات السلمية.

لكن المؤكد أن كل ما ظهر على سطح الحياة العربية أفرغ الانحباس السياسي والثقافي وأشبع نهم العاملين على فكرة الهويات، وسيعود المشهد حكماً إلى لحظة البحث من مصائر الحياة اليومية للناس التي لا مجال لإنكارها.