عندما خرج وفدُ «هيئة علماء المسلمين» من عرسال خلال الأحداث الأخيرة مطلعَ الشهر الماضي، وأعلن التوصلَ الى اتفاق مع المسلّحين بعد «مهمة تفاوضية» بناءً على تكليف رئيس الحكومة تمام سلام، قفز الى أذهان كلّ مَن كان يتابع، مصيرُ العسكريين المخطوفين ومستقبلُ ما تبقّى من «هيبة الدولة» ومن قرار سياسي.
كان واضحاً أنّ ثمّة خللاً في مكان ما، وأنّ الدولة وقعت في فخّ نصبه المسلّحون، وساعدهم عليه «المفاوضون»، وبلغ التهويل حدوده القصوى في البيان الذي أصدرته «هيئة العلماء»، وطلبت فيه النزول الى الشارع وقطع الطرق» حتى يتوقف القصف على عرسال»! ومَن يعرف ما حصل خلال المعركة، يُدرك أنّ الجيش لم يقصف عرسال بل قصفها المسلّحون الارهابيّون الذين يحتلونها ويخطفون عناصر عسكرية وأمنية رسمية.
إنصاع القرار السياسي في الدولة للتهويل الذي مورس عليها وعلى الجيش وفي الشارع، مع أنّ وزراء من تيار «المستقبل» كانوا يقولون عن «معركة عرسال» إنها معركة وطنية وليس فيها انقسام مذهبي والجميعُ متَّفق على دعم الجيش اللبناني.
الذين عرفوا ما حصل في اجتماعاتِ رئيس الحكومة ووفد «العلماء» وبعض النواب والوزراء، ذُهلوا لحجم التهديدات المبطّنة والتهويل الذي مورس على سلام. أحد الوزراء قال إنّ المسلّحين كانوا حاضرين بمطالبهم وشروطهم من خلال الوفد المفاوض، وإنّ الكلام الذي صدر في حق الجيش وقيل لسلام، شكّل ضغطاً هائلاً على الرجل، فيما تيار «المستقبل» يُطلق خطابين، ويتحدث لغةً مزدوجة، فيدعم الجيش في «الاعلام» ويضغط عليه بنحوٍ مستتر.
هذه هي الوقائع المؤسسة للحال السائدة اليوم. مرّت المذبحة في حق الشهيدين علي السيد وعباس مدلج بكثير من العاطفة، وقليل من الحزم. البلد كله واقع تحت رحمة السكاكين ولا يزال القرار السياسي ينتظر مزيداً قبل أن يحسم أمره ويستعمل «اوراق القوة» التي تملكها الدولة.
التفاوضُ مع الارهابيّين سقط، ومبدأ المقايضة مرفوض. الرضوخ لمطالب الخاطفين سيترك أثراً سلبياً في الحكومة ومستقبل القرار السياسي في البلاد، وليس أمام رئيس الحكومة سوى تحرير قراره السياسي من الضغط والتهويل والارباك.
لم يكن مطلوباً من الجيش اجتياح عرسال او تدميرها كما جرى تصوير الامر. والآن ليس مطلوباً منه الاندفاع في المجهول. لكنّ المعالجة السيّئة للملف منذ البداية اوصلت الامور الى هذا المأزق وهذا الاحتقان، وإنقاذ لبنان وما تبقى من هيبة للدولة ومنع سقوطها يتطلّب قراراً جريئاً.
لو سُمح للجيش بعزل عرسال عن جرودها ومنع الإمداد عن المسلّحين، لما وقفنا عاجزين عن تحرير مخطوفينا، ونحن نشاهدهم يُذبحون الواحد تلو الآخر. هذه احدى اوراق القوة التي يمكن لرئيس الحكومة استعمالها.
«حزب الله» يبذل جهوداً جبارة واستثنائية لضبط شارعه، وحركة «أمل» حرست بعض مخيّمات النزوح السوري في الجنوب والبقاع خوفاً من ردات الفعل. وكما أنّ لـ«هيئة العلماء» شارعها الذي تقول لرئيس الوزراء إنّه «يغلي»، كذلك لدى الحزب والحركة شارع يكاد ينفجر. ومنع الاندفاع نحو الصدام والحرب الاهلية يكون بقرار جريء وليس بالمماطلة ودفن الرأس في الرمال، وترك الاقدار تسيّر الوقائع.
الإعلام بدوره ينبغي أن ينتبه. في مكان ما ثمّة من يُبرّر لـ«داعش»، و»جبهة النصرة» ويعيد تكرار معزوفة «حزب الله في سوريا»، وكأنّ أهالي الموصل ومعلولا وصيدنايا شاركوا في القتال السوري حتى جاءتهم «داعش» وطردتهم من ديارهم! هذا المنطق التبريري يُشوّش الرأي العام ويزيد الاحتقان ويضرّ بالسلم الاهلي، ويخلط بين الانقسام السياسي المفهوم والمقبول، وبين التآمر على البلد تحت عنوان الانقسام.
إنقاذ عرسال واهلها أيضاً يحتاج الى اتخاذ القرار. البلدة محتلة وبعض ابنائها متورّط مع الارهابيين ولديه مصالح. لكنّ قدر البلدة أن تعيش مع جوارها وهؤلاء حال طارئة لن تدوم، وللحفاظ على عرسال لا بدّ من قرارات قاسية غير شعبية ربما، تضغط على الارهابيين بالمتنفَس الاخير لديهم وهو عرسال، وتمنع عنهم الامداد اليومي والمستمرّ الذي يتلقونه يومياً عبر البلدة.
السعودية وتيار «المستقبل» أصحاب مصلحة في منع سقوط البيئة السنّية في مدار «داعش» والجماعات المتطرّفة. ثمّة مَن يقول إنّ المحور القطري – التركي يُورّط السعودية في لبنان ليفقدها نفوذها، ويستبدله بنفوذ إرهابي يديره من بعد. كلّ العوامل تؤشر الى ضرورة مغادرة الميوعة والتراخي والارباك في اتخاذ القرار.
في العام 1974 لم يُوفق لبنان برئيس حكومته رشيد الصلح لأنّ الحركة الوطنية كانت تديره، ولم تنجح حكومته في منع الحرب. سنة 2014، ليس أمام سلام سوى الاتعاظ واتخاذ القرار المناسب لمنع الانفجار الذي يقترب.