التقاء المصالح يبطل مفاعيل القطيعة
«اللقاء الباريسي»: الحريري وجنبلاط.. وعون ثالثهما
منذ ان طلـّق وليد جنبلاط «14 آذار» قبل خمس سنوات، وانتقل الى المحور الوسطي، مرّت علاقته بسعد الحريري بحالات صعود وهبوط وبهبات سياسية باردة وساخنة تبعا للظروف. ثم انكسرت الجرة بينهما بعدما شارك جنبلاط في الانقلاب على الحريري وتطييره من رئاسة الحكومة لمصلحة نجيب ميقاتي.
استاء الحريري وقرر ألا يغفر، وأغلقت أبواب السعودية بوجه جنبلاط، لكنه قرّر الا يقطع الشعرة مع الحريري، فأبقى وائل ابو فاعور مستنفرا لرحلات ذهاب واياب للتشاور معه حول مختلف التفاصيل. ثبت التواصل مع الحريري، لكن بحدود علاقة متقطعة محكومة بالفتور وبالتباينات. ولم يفلح تبدل ظروف لبنان والمنطقة، والتقاء الرجلين في فصل «الربيع العربي»، ورهانهما على «الربيع السوري»، ودور جنبلاط بتطيير حكومة ميقاتي وتسمية تمام سلام، في اعادة العلاقة الى ما كانت عليه قبل الزواج الجنبلاطي مع الحالة الوسطية وطلاقه للحالة السيادية.
بقي الحريري على زعله من الانقلاب عليه، وبعد ان قال لميقاتي بعد تكليفه: «سأبقى أقاتلك حتى النهاية»، قال للمقربين منه، انه لن ينسى دور جنبلاط في هذا الانقلاب. وفي الامس القريب اسرّ للمقربين عن ضيقه مما أسماه «الدور المضخّم لجنبلاط، وتحكمه بمسار السياسة والانتخابات الرئاسية وتسمية رؤساء الحكومات وتأليف الحكومات ومنحها الثقة». ولقد كشف هؤلاء أن الحريري كان شديد الانزعاج من دور جنبلاط في تسمية سلام لرئاسة الحكومة.
في الزمن الرئاسي، التقى الرجلان سياسيا، عن بعد، وشهدت العلاقة بعض التقدم وشيئا من الغزل، والتودد المتبادل، والرغبة في الانفتاح اكثر، واذا كانت ثمة استحالة في إزالة أسباب الخلاف، فعلى الاقل العمل على عدم تعميقها وضبطها في حدود مانعة لتفاعلها.
وكما يؤكد العارفون، فقد جمعت الحريري وجنبلاط مصلحة التمديد لميشال سليمان، لكن بعدما فشل التمديد وحلّ الفراغ الرئاسي، دخل كل منهما في تجميع الاوراق، كل في مساحته، لكنهما لم يقتربا من بعضهما، وحال بعض الالتباس دون عقد لقاء بينهما كان يفترض ان يتم في باريس قبل نحو اسبوعين، وتكتم الجانبان على أسباب عدم حصول اللقاء، وإن ردّها الاشتراكيون الى اسباب «تقنية».
امسك الحريري بيد ورقة تبني ترشيح سمير جعجع لرئاسة الجمهورية، وفي اليد الثانية امسك ورقة الحوار مع ميشال عون وشجعه الاميركيون وفتح له السعوديون هامش تحرّك ولكن من دون القدرة على اتخاذ قرار حاسم.
لم يأخذ جنبلاط تبنّي الحريري لترشيح جعجع على محمل الجد، بل اعتبره من قبيل مسايرة سياسية مفروضة على زعيم تيار «المستقبل» الذي يدرك جيدا ان طرق رئيس «القوات» الى بعبدا مقفلة لأنه شخصية مستفزة ويمكن ان تقود البلد الى كارثة.
الا ان جنبلاط نظر الى حوار عون ـ الحريري بشيء من الريبة، ولم يخف امتعاضه من «الغنج السياسي» الذي يمارسه الحريري تجاه عون، وخلفيته، والمدى الذي سيبلغه!
وتبعا لذلك، جاء اعلان جنبلاط رفضه القبول بتسوية على حساب مرشحه هنري حلو، وأنه لن يسحب ترشيح حلو حتى ولو توافق عون والحريري. وذهب جنبلاط ابعد من ذلك في لقائه الاخير مع الوزير سعود الفيصل حين اقترح ان تقنع السعودية حلفاءها بالتصويت لحلو على اعتبار انه إبن بيئة «14 آذار» ولا يشكّل استفزازاً لأحد، وبإمكانهم الوثوق به وبمواقفه.
مما لا شك فيه ان اللقاء الباريسي المرتقب بين الحريري وجنبلاط ما كان ليعقد من دون موافقة سعودية، واذا كان هناك من يرى في هذا اللقاء نوعا من كسر للجليد لا اكثر ولا اقل، على اعتبار ان اعادة بناء الثقة لا تتم برمشة عين، فهناك من يعتبره حاجة للحريري للتأكيد مجددا على موقعه المرجعي على الحلبة السياسية اللبنانية، وفرصة لمحاولة اعادة جنبلاط مجددا الى «الحضن السيادي» بما يؤدي الى الامساك مجددا بالزمام السياسي، بالتوازي مع المتغيرات التي تتسارع في المنطقة.
وهناك من يقرأ في اللقاء الباريسي حاجة جنبلاطية لاسباب عدة:
– وجد جنبلاط نفسه آخر حلقة وسطية ما زالت قائمة، بعد خروج ميقاتي ومن ثم سليمان، فصار امام معركة اعادة انتاج وسطيته وترسيم حدودها وتقوية موقعه واثبات حضوره كلاعب اساس في الملعب الرئاسي لا كلاعب مهمّش، ينتظر على مقاعد الاحتياط.
– الخشية من ذهاب الامور نحو فرض ميشال عون رئيسا للجمهورية، وتلك كارثة في نظر جنبلاط، ولذلك فإن أولويته هي قطع الطريق على عون، وجعجع تحصيل حاصل. و ثمة تساؤلات حول حقيقة الموقف الاميركي ودواعي الاصرار الاميركي على منح الحوار بين الحريري وعون فرصا اضافية لتحقيق نتائج.
– قطع الطريق على اية مغامرة بتقديم الانتخابات النيابية على الانتخابات الرئاسية تلبي ما يسعى اليه عون الذي يجاهد لكي يفرض نفسه مرشحا وحيدا للرئاسة.
– اللقاء مع الحريري ضروري، فقد يمهد لانفتاح جدي وفاعل مع السعودية.
– القلق من تطورات المنطقة، ولعل اللقاء مناسبة للتأكيد على تحصين الداخل واعادة لملمة الوضع اللبناني، فسوريا مشتعلة وكذلك العراق، ولبنان قابل للاشتعال.
يبقى السؤال: هل سيؤدي لقاء الحريري ـ جنبلاط الى خرق نوعي في العلاقة بينهما وحول الاستحقاق الرئاسي، ويتفقان على خريطة طريق للمرحلة المقبلة؟