ما حصل في عرسال وجردها كان متوقعا، المسألة كانت تكمن فقط في التوقيت. انتظرتها الأجهزة الأمنية في رومية أو الشمال، فطلّ المخطّط الإرهابي برأسه من عرسال في استهداف مباشر ومنظّم ضد الجيش.
السؤال الأهم، هل انتقلت الحرب السورية رسميا إلى لبنان، واستطرادا هل بدأت المعركة الكبرى في عرسال لتطهيرها من المسلحين الغرباء، أم أن عوامل الجغرافيا والسياسة قد تجعل العملية محدودة في المكان والزمان بما يمكّن الجيش من العودة إلى المربع الأول والاكتفاء باستعادة السيطرة على مراكزه العسكرية فقط؟
وبغضّ النظر عن موازين القوى في هذه البلدة الحدودية البقاعية، ثمّة مجموعات كبيرة من المسلحين تقاتل الجيش للمرة الأولى من داخل الأراضي اللبنانية. هناك 13 أسيرا من الجيش في قبضة إرهابيين بعد سقوط مركز قلعة الحصن ليل السبت ـ الأحد، في مقابل أسر الجيش لعدد من المسلحين.
الاستنفار في صفوف المؤسسة العسكرية بلغ حدّه الأقصى منذ اندلاع الأزمة في سوريا، والمؤتمر الصحافي الأول من نوعه للعماد جان قهوجي منذ تسلّمه قيادة الجيش بدا رسالة مباشرة بعنوانين: أول، هو التحذير من انتقال عنصر المباغتة في ضرب الجيش الى مناطق أخرى، وثان، هو التدليل على خطورة تجاهل «الوضع الأمني للنازحين».
ففي الوقت الذي فتحت فيه الجبهة على مصراعيها في عرسال بوجه الجيش، بما أوحى في ساعاتها الأولى بأن البلدة تبدو كبقعة خارجة تماما عن سيطرة الدولة وشبيهة بالمستنقعين السوري والعراقي، فان مخاوف حقيقية برزت لدى جهات مسؤولة من محاولات لاضعاف الجيش أكثر واستنزافه وتشتيت قواه من خلال توسيع رقعة الاشتباكات وانتقالها الى طرابلس وعكار ومخيم عين الحلوة، وهو الأمر الذي ترجمت مؤشراته مع لحظة انفجار الوضع في عرسال.
وبتأكيد بعض المطلعين، فان كل ما سيق سابقا عن سيطرة «حزب الله» على مناطق حدودية مع سوريا من جهة القلمون لم يكن ليمنع تدفّق المزيد من المسلّحين التكفيريين الى داخل عرسال. كما تبين ان المجموعات التي هاجمت فصيلة الدرك ومراكز الجيش هي أصلا متواجدة بين النازحين في البلدة، فضلا عن الاف المسلحين المتغلغلين في صفوف النازحين في الجرود. فحدود عرسال مع سوريا هي أكثر من 76 كلم يستحيل على الجيش السوري و«حزب الله» والجيش اللبناني، مجتمعين، تأمين اقفال معابرها أو السيطرة عليها.
وقائع الأرض لا تزيدها بشاعة سوى الوقائع السياسية. فحاجز واحد للجيش عند نقطة اللبوة ـ عرسال كان يدفع بعض «المستثمرين» الى مواجهة قيادة الجيش بعنوان «منع استهداف عرسال».
وحين قام «حزب الله» عقب التفجيرات الانتحارية بإقامة حواجز للحدّ من سيارات الموت قامت قيامة «المستقبل»، مصنّفا ذلك ايضا في خانة التهديد الصريح لأهالي عرسال والتنكيل بهم.
التشكيك بنوايا المؤسسة العسكرية منذ سنوات يؤدي الى تكبيلها ومحاصرتها. قتل ضباط وجنود في أكثر من مناسبة ومنطقة، لم يكن كافيا لصدور قرار سياسي بالتصدي للقتلة ولو بالامكانات المتاحة. «فلتت» الالسنة التحريضية والمذهبية بوجه الجيش. اعتقل إرهابيون ثم افرج عنهم ورصاص الابتهاج بعودتهم يلعلع فوق رؤوس السياسيين، ولم تحرّك الحكومات ساكنا.
وفوق كل ذلك نظّمت «رحلات الدعم والمؤازرة» من أمانة 14 آذار الى عرسال ومخيمات النازحين فيها. سيذكر العديد من المسلحين مناشدة فارس سعيد الحكومة الاهتمام الفوري بوضع العائلات النازحة من سوريا من خلال تأمين الحاجات لها عبر الهيئة العليا للإغاثة، ومطالبة وزارة الصحة بتحمّل مسؤولية تأمين الجرحى والمصابين في المستشفيات على نفقتها!
مشهد عرسال لا يشبه جولات الاستنزاف الطويلة في طرابلس، ولا مخططات الاختراق عبر الحدود الشمالية، ولا استهداف الحواجز العسكرية بانتحاريين، ولا معركة عبرا، ولا حتى ذلك اليوم المشؤوم في 18 آذار الماضي حين سيطر شبح الفتنة من عرسال واللبوة وجرود البقاع الشمالي نحو الشمال وبيروت وصولا الى صيدا في حرب شوارع استنزفت طاقات الجيش وكانت مدخلا لانتشار أمني عسكري محدود في عرسال، تبيّن لاحقا بأنه كان عبارة عن إجراء رمزي بفعل غياب القرار السياسي الحازم، ما منع «تحرير» عرسال من قبضة خاطفيها.
اليوم، وفي ظل حكومة تمام سلام، التي انتجت تعاونا وتنسيقا مباشرا بين الاجهزة الامنية وبين «المستقبل» و«حزب الله»، الأمر الذي ساهم كثيرا في ضبط الارض أمنيا وكشف العديد من الخلايا الارهابية، ثمة فرصة متاحة للحد من الخسائر ولمنع كارثة يصبح معها مصير لبنان على المحك وليس جيشه.
ما حذر منه وليد جنبلاط مرارا وتكرارا قد حصل. دعم «تيار المستقبل» لكل ما يصبّ في خانة دعم الثورة السورية جعل «الغول التكفيري» يكبر تدريجا ليبلع «التيار» نفسه، ومع ذلك، يبقى «المستقبل» قادرا على لعب دور في نسج حلّ سياسي من خلال الضغط على «مفاتيحه» في عرسال واعطاء ضوء أخضر مفتوح للجيش.