تفترضُ غرفة الدرجة الأولى لدى المحكمة الخاصة بلبنان، ومن خلفها رئاسة المحكمة، رئيساً ونائباً للرئيس، أن نيّة الدفاع بفرقه المختلفة التسويف لشراء الوقت، وبالتالي تأجيل المحاكمات بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري قدر المستطاع. والغرفة على قاعدة سوء الظن، تكابر فتضع المهل لاستئناف المحاكمات، حارقة المراحل الضرورية الضامنة لتوازن التحضير لدى الجهات المعنية، لا سيما الادّعاء وفرق الدفاع بشكل عام، وفريق المتهم الخامس حسن مرعي على وجه الخصوص.
وتحاول الغرفة تجميل مخالفاتها لأبسط مبادئ العدالة وللنظام الأساسي للمحكمة وقواعد الإجراءات والإثبات، من خلال قراراتٍ شكلية تراعي تارة مسألة المهل كما ترتئيه هي، وتارة أخرى بتمييع حقيقة تمنّع تعاون بعض الجهات اللبنانية مع طلبات فرق الدفاع، وجلّها طلبات هامة تتصل بأساس القضية.
وقد عبّر المحامي محمد العويني، وهو القاضي المتمرس في بلاده وفي مواقع قضائية عدّة ولكلامه وقعٌ محترم على أوساط قضائية وقانونية عالمية، وبصفته مكلفاً حماية حقوق المتهم حسن مرعي، عن مخاوفه من ان تُغطي الغرفة محاكمة «وهمية ومرافعات صورية» نتيجة عدم احترام مبدأ التوازن، لا بل حمّل الغرفة مسؤولية ما قد ينتج من ذلك من انتهاك لحقوق المتهمين وبالتالي من ظلم مفترض.
ولعل كلام المحامي العويني جاء على خلفية ما تضمنه التصريح التمهيدي للإدّعاء، وفيه كلامٌ وتشهير بالمتهمين ووصفهم «بالمجرمين والوحوش» في وقتٍ لم تصدر الغرفة أحكامها، ولطالما قال رئيسها، ولو من باب رفع العتب، «ان المتهم بريء حتى تثبت إدانته». لكن الادّعاء يمارس على قاعدة صدور الحكم بالإدانة، فيلعب لعبة التشهير المتعمّد بالمتهمين، لأن ذلك جزء رئيسي من وظيفة المحكمة التي أنشئت في سبيلها، بمعزل عن العمليات القضائية وأركانها الضرورية.
دور الغرفة الأولى
وبالعودة إلى دور الغرفة الأولى المرتبك، فالسؤال البديهي الذي يتناقله العديد من القانونيين في لبنان، هل هذا الأداء لقضاة الغرفة مقصودٌ بهدف إحداث إرتباك لدى فرق الدفاع أم أنه طبيعي في مؤسسة بنيت على أسسٍ قانونية «رملية»، والتجريب قاعدته الوحيدة؟
لقد حددت الغرفة موعداً لاستئناف المحاكمات من دون احترام لحق فريق المتهم حسن مرعي بالتحضير الكافي بحده الأدنى، وان شهود المرحلة الأولى هم من الفئة التي لا تتحمل تبايناً من الجهات المعنية بالمقاضاة، محاولة تجزئة المحاكمات إلى مراحل، وضرب وحدة القضية وترابط عناصرها موضوعياً. وتبيّن لاحقاً ان الشهود هم أساس في تكوين الملف الاتهامي للمدّعي العام وخبراء في مجال المتفجرات ومسرح الجريمة والحمض النووي، وساهموا بصورة أساسية في مسح موقع الانفجار وشاهدوا العبث الطبيعي بموقع الانفجار.
وبعضهم ساهم، يومياً، بالعبث المتعمّد، حسب تعبير المحامي العويني. ولفهم إشارة العويني الأخيرة، فإن المعلومات التي يتم تداولها في هذا الخصوص إنما تنطلق من معطيات عدة أهمها ان قطاعات قوى الأمن الداخلي التي كانت تعمل بإشراف اللواء أشرف ريفي، وزير العدل الحالي، لم تتمكن من حماية موقع الانفجار رغم قرارات قاضي التحقيق العسكري الأول آنذاك القاضي رشيد مزهر، وتبلغه من اللواء ريفي ان الإجراءات اتخذت كاملة، ليفاجأ القاضي مزهر لاحقاً بالتقرير الذي أعدّه اللواء ريفي وأبلغ بموجبه لجنة تقصي الحقائق الموفدة من الأمين العام للأمم المتحدة، «بأن لا قدرة ولا إمكانية ولا حرفية للأجهزة الأمنية والقضائية اللبنانية تؤهلها للقيام بواجباتها»!
والمديرية نفسها، لم تنجح، عمداً أو عن غير عمد، في الحفاظ على كاميرات المراقبة الخاصة بأكثر من نقطة محيطة بموقع الانفجار رغم إبلاغها لجنة التحقيق الدولية بوجودها، ومن ثم إعلان اختفائها بصورةٍ مريبة..
وأكثر من ذلك، لقد كشف الادّعاء في تصريحه التمهيدي عن أمرٍ جديد لم يذكره القرار الاتهامي، وهو ان المتهم أسد صبرا قد زار طرابلس لأربعة أيام بحثاً عن «كبش محرقة» ولم يوفق…، كلام الادّعاء يسهل الاستنتاج لدى المراقبين، بأن ثمة شاهدا، سيدلي بإفادة تؤكد مضمون السياق الذي عرضه غرايم كاميرون بهذا الخصوص، وهذا يقودنا إلى سؤالٍ متكرر عن حرفة توليد الشهود التي تميّزت بها إحدى قطاعات قوى الأمن الداخلي، بعضها سقط (ملف التضليل – محمد زهير الصديق ورفاقه) وبعضها سيسقط حكماً بعد ان يتضح دور بعض ضباط قوى الأمن الداخلي في صناعة الشهود واستخدامهم المال والإغراءات المادية الأخرى في سبيل ذلك.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى ان اعتراف المدّعي العام مؤخراً بأنه «دفع مالاً مقبولاً يتوافق مع المعايير الدولية» لبعض الشهود، دون الكشف عن هؤلاء الشهود ولا عن كمية الأموال وما إذا كان لها سمة الاستدامة حتى اليوم، يشكل علامة استفهام كبيرة، ويدعو لمزيدٍ من البحث والتدقيق حيال تأثير المال في صناعة السيناريو المتخيل للادّعاء.
لقد قدّم كاميرون، «سيناريو متخيلا»، استند فيه إلى تحليل بيانات الاتصالات، ويكمن العيب الأساسي لنظرية الادّعاء (خارج مبدأ اللعب في الشبكات الخلوية واختراقها)، في ان الادّعاء لا يملك أي مضمون لهذه الاتصالات، فيحاول ان يبني على حركة الاتصالات، سيناريو محتملا وافتراضيا، ومهما كان كلام الادّعاء جميلاً ومنسقاً ومنمقاً، غير انه يبقى أضعف من ان يماثل مبدأ «أدنى شك معقول».
ومن المتوقع ان يكون الادّعاء، قد جهّز أدلّته الداعمة لرؤيته الاتهامية، وجند لها، أو جُند له، شهود بينهم ضباط وعناصر أمنيين، ستشكل إفادتهم أساساً في تدعيم نظريتهم. في المقابل، سيتعرض هؤلاء الضباط والشهود الآخرين إلى استجواب مضاد قد ينتهي في حال انكشاف الضعف المتوقع في الافادات إلى إقامة دعاوى «تضليل وعرقلة سير العدالة» أمام المحكمة.
قضية الأمين والخياط
وبعيداً عن أجواء قضية الرئيس الحريري، فإن المحكمة، انشغلت مؤخراً بقضية الزميلين إبراهيم الأمين وكرمى الخياط، وقد تسلم القاضي نيكولا لتييري، وهو الناظر في التهم الموجّهة للزميلين، العشرات من الدراسات والآراء القانونية والاعلامية عبّرت بصورةٍ واضحة عن رفضها «المس بمبدأ حرية الإعلام، الذي يشمل الحق في الوصول إلى المعلومات ونشرها طالما انها تفيد قضية الحقيقة.
ولكن اللافت في جميع هذه الدراسات، أو غالبيتها، انها تلقي الضوء على عدم شرعية الأساس القانوني لقيام المحكمة، خارج الإطار الدستوري للبنان وللنصوص الناظمة في ميثاق الأمم المتحدة.