حصل احتلال أميركي للعراق، ثم حصل انسحاب أميركي من العراق. بعد الاحتلال والانسحاب ليس ثمة خيار أميركي ثالث الا كاستئناف للتدخل أو كمتابعة للانسحاب.
قطع رأس المراسل جيمس فولي وفيلم الرعب الذي بثّته «داعش» يكشف كم أن عالمنا أصبح مترعاً بالشرّ، لكنه يكشف كم أن عالمنا أصبح أكثر خطراً، في ظلّ «الكبوة الأوبامية». لكن شيئاً لن يتبدّل على نحو منهجي: أي خيار يزيّن لنفسه بأنّه يتجاوز ثنائية الاحتلال والانسحاب هو خيار يخلط بين السياسة الدولية والعمليات الحربية وبين فنون السحر.
وقت طرح الديموقراطيون بقيادة باراك اوباما خيار الانسحاب من العراق كان نشاط الفصائل الجهادية المتطرّفة قد انكمش الى حد كبير، لكنه لم يأت يوم واحد خمدت فيه، وكانت تجربة انتخابية وبرلمانية تنمو، لكن تشوّهاتها البنيوية ظهرت باكراً وبنفس مذهبيّ لا وجاهة في المكابرة عليه. الانسحاب الأميركي كان مطلباً شعبياً، سواء في العراق أو في الولايات المتحدة أو في كل العالم، كل لحسابه. وهذا ما حدث.
اليوم، ليس ثمة شيء سحريّ. فاما معاودة الاحتلال بشكل من الأشكال، وهذا غير مطروح، واما متابعة مقتضيات الانسحاب، وهذا غير عملي. لم يعد بمقدور أحد من المحافظين الجدد ان يباهي جدياً بخيار التدخل في العراق، وفي المقابل لم يعد الانسحاب مفخرة ديموقراطية في مواجهة الجمهوريين.
ليس ثمة خيارات أميركية سحرية لا في العراق ولا في افغانستان. تجربة الانسحاب الاميركي في العراق، تبعها نظام امني فئوي موالٍ لايران قاده نوري المالكي، ومن بعدها نجاح تنظيم «الدولة الاسلامية» في تسخير الصلف والاحتقان المذهبيين في العراق للشام لصالحه. يكفي فقط تخيّل تداعيات الانسحاب الأميركي الآخر من أفغانستان، في ظل سيطرة حركة طالبان على أقاليم شاسعة منها ومن الباكستان.
كثيرون وصفوا، عبر هذا العالم، فيلم الرعب الداعشي، بالهوليودي. يبقى ان المخرج من فيلم الرعب هذا لا يمكن ان يكون هوليودياً. ثمة خيار من اثنين: العودة الى الاحتلال، أو تثبيت الانسحاب واستكماله. ترمي الضربات الجوية والصاروخية ضد تنظيم «داعش» الى رسم خطوط حمراء «لعلّ وعسى» يفهمها التنظيم، لكن لا ضمانات لهذا، وفيلم الرعب الداعشي وان يتعذّر احتسابه ردّاً مركزياً أو ختامياً على هذه الضربات، الا انه لا يسهّل هذا الاتجاه. فهل يكون الحل بتمكين القوى الاقليمية من تقويض «داعش»؟ وكيف يكون ذلك؟ بالمكابرة على الصراع المذهبي الاقليمي او أخذ طرف فيه؟ بالتغاضي عن جرائم النظام السوري ومنها قتل الناس بالكيماوي أم بالتلازم بين تجفيف «داعش» وبين العمل على انهاء هذا النظام؟ ان ادارة تمثّل معاني الكبوة مثل ادارة اوباما لا يمكن المراهنة كثيراً على نجاحها في هندسة «حلف اقليمي» ناجح في مواجهة «داعش«.
حتى الساعة، ورغم كل الصخب، ما زالت الادارة الأوبامية تراهن على المستحيل ولو انها لا تصرّح بذلك، هذا المستحيل الذي هو اجبار تنظيم «داعش» على «تغيير سلوكياته». وكانت الادارة نفسها قد اثبتت، انه، فيما يتعلق بالنظام السوري، فانها ظلت، في ذروة الثورة الشعبية عليه، كما في عز الحرب الاهلية بعد ذلك، ادارة لم تقطع مع منطق «تغيير سلوكياته»، هذا مع وعيها التام بأنه لأمر مستحيل. في المقابل، وحدها ايران وأذرعها المباشرة في العراق ولبنان قد أفسحت بالمجال للأميركيين لاعتماد منطق «تغيير السلوكيات» لا يصطدم سلفاً بالاستحالة، وان كان يصطدم طبعاً بقدرة بالغة للايرانيين وامتداداتهم على التحايل والمراوغة، والاستفادة، وهذا الأهم، من تخبط الادارة الأميركية سواء في سياستها تجاه النظام السوري أو في سياستها تجاه تنظيم «الدولة«.