المسيحيون و”الممانعون” يختلفون في النظرة إلى اللبنانيين في إسرائيل
والحملة الحادة على البطريرك الراعي بلا جدوى
تختلف بوضوح مشاعر المسيحيين في لبنان، على تنوعهم وبمن فيهم أنصار الجنرال ميشال عون، عن مشاعر “الممانعين” وفي طليعتهم “حزب الله” حيال موضوع اللبنانيين اللاجئين إلى إسرائيل (“العملاء” كما يسميهم الحزب).
صحيح أن مواقف الجنرال عون تدرجت من أقصى تناقض مع الحزب الذي كان بالنسبة إليه تنظيماً إرهابياً تابعاً للخارج قبل أن يبدأ رحلة التماهي معه منذ إرساء التحالف معه بناء على “وثيقة تفاهم” كنيسة مار مخايل في 6 أيار 2005، إلا أن الاختلاف في النظرة الى موضوع اللاجئين الى إسرائيل ظل قائماً بينهما، فارتأيا معاً أن الأفضل تجاهلها مرحلياً. عون على أمل أن تحلها الأيام أو رئاسته للجمهورية لاحقاً. و”حزب الله” على أن الزمن كفيل بإسدال ستار النسيان عليها من جهة، واندامج هؤلاء حيث هم في بيئتهم الجديدة خارج لبنان، و نشوء جيل جديد لا يعني له لبنان الكثير.
البطريرك الماروني بشارة الراعي أعاد قضية هؤلاء اللبنانيين الذين يبلغ عددهم بحسب بعض المصادر ثلاثة آلاف تقريباً من خلال زيارته للأراضي المقدسة والمواقف التي أطلقها هناك مطالباً بعودتهم ونازعاً عنهم الصفة التي يطلقها عليهم “الممانعون” ولا سيما “حزب الله”، وبمصالحة في الجنوب على غرار التي رعاها سلفه البطريرك السابق نصرالله صفير في الجبل مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب وليد جنبلاط صيف السنة 2001.
أثار كلام الراعي استياءً شديداً لدى الحزب، خصوصاً سؤاله عن العملاء ومن يكونون، هم أو من عطّلوا الانتخابات الرئاسية. على الأثر انطلقت ماكينة إعلامية في توزيع واضح للأدوار تنتقد البطريرك ومواقفه وتهاجمه.
وقع هؤلاء في ما وقع فيه قبلهم أركان وشخصيات بارزة في قوى 14 آذار (الجناح المسيحي فيها) عندما أطلقوا انتقادات في اتجاه الراعي اتسم بعضها بالشدة عند أكثر من محطة: زيارته لسوريا وكسره محرّماً كرّسه سلفه البطريرك صفير، وإن كانت تلك الزيارة في ظل حدث ديني هي أيضاً، أي جنازة بطريرك الروم الارثوذكس الراحل الياس الرابع. وأيضاً مواقفه المثيرة للجدل من نظام بشار الأسد لا سيما خلال لقائه والرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في باريس، وتأييده في بعض المراحل مواقف تعود الى الجنرال عون. وبلغ تدهور علاقة هؤلاء ذروته أواخر السنة الماضية لدى انتشار أخبار عن توجه أو قرار فاتيكاني بإبقاء الراعي في عاصمة الكثلكة بعد ترقيته وترئيسه احد المجامع الكنسية وانتخاب خلف له في لبنان، فضلاً عن اعتراضات على دعوات متنوعة أطلقها الراعي واستلزم كل منها إصدار توضيحات شتى بعد أن تكون أثارت ردود فعل متباينة.
في النهاية استخلص الفريق الذي كان يخاصم البطريرك أو يوالي انتقاد مواقفه وتصريحاته أن احتواء الراعي بل حتى توقّع خطواته وقراراته هو أمر صعب. يعود ذلك الى شخصيته التي لا تأبه للاعتراضات ولا تخضع لضغوط خصوصاً متى كانت علنية وعبر وسائل الاعلام. لعلّ أول من أدركت ذلك قيادة حزب الكتائب، الرئيس أمين الجميل ونجله النائب سامي الجميل اللذان دأبا على دعوة كل من له اعتراضات على البطريرك وخطواته للتوجه الى بكركي والبحث في الاعتراضات معه.
إذاً، خطوة الراعي بزيارة الأراضي المقدسة ولقاءاته مع اللبنانيين هناك سلّطت في شكل خاص الضوء على الافتراق في النظرة الى هؤلاء في وطنهم، بل في النظرة الى تاريخ لبنان الحديث. عارض المسيحيون “اتفاق القاهرة” (1969) وقاوموا لاحقاً “المقاومة الفلسطينية” التي انتهى دور تنظيماتها المسلحة مأسوياً مع الاحتلال الاسرائيلي عام 1982، وهم في مجملهم ينظرون الى “المقاومة الاسلامية” على أنها استمرار للمقاومة الفلسطينية التي حوّلت لبنان أرض مواجهة مع إسرائيل، والأهم أن تلك المقاومة الفلسطينية مسؤولة عن إجبار أهالي الحدود اللبنانيين على فتح الحدود مع إسرائيل عبر “الجدار الطيّب” بادئ الأمر، في حين تخلّت عنهم الدولة اللبنانية أو أرغمت على الابتعاد عن تلك المنطقة تاركة إياهم لمصيرهم، الأمر الذي يوجب عدم التعامل معهم على أنهم عملاء جميعاً، والسعي الى حل لقضيتهم ووضع حد لها وإلا كان الأمر مجرّد وجه من أوجه تكريس الغلبة بين اللبنانيين.
يروي هنا أحد السياسيين لـ”النهار” أن البطريرك السابق صفير كلّف مطران صور (الراحل) مارون صادر بترؤس جنازة المسؤول في ميليشيا “جيش لبنان الجنوبي” سابقاً عقل الهاشم الذي قضى بمتفجرة آخر كانون الثاني سنة 2000، وواجه حملة شعواء عليه شبيهة بالتي يواجهها اليوم البطريرك الراعي. تلك الأيام كان الجيش السوري واستخباراته في عزّ السطوة فانكفأ السياسيون عن مساندة البطريرك ولزموا الصمت، فانبرى يتصدى للحملة العلامة السيد محمد علي الأمين. قال إن “البطريركية قامت بواجبها الديني تجاه عقل هاشم الماروني وليس العميل”، فهدأت الحملة.
وتوقع السياسي نفسه أن تهدأ الحملة بعد أيام لأن من يقفون وراءها سيدركون أنها لا تنفع مع الراعي، حتى لو اقترح بعضهم أن يزور الضاحية الجنوبية أو طهران. وذكّر بتصريح للبطريرك غداة انتخابه في 15 آذار 2012 لصحيفة “النهار” (أدلى به للزميل حبيب شلوق) جاء فيه أنه سيزور سوريا والأراضي المقدسة، الأمر الذي أشاع استغراباً وتبيّن أن الرجل يقف عند كلمته ويخطط لما يريد فعله.