Site icon IMLebanon

المطبخ السياسي في بعبدا.. هؤلاء هم طهاته

لم يوفّر ميشال سليمان حين كان سيداً للقصر، خدمات باقة المستشارين الذين أحاطوا به طوال عهده السداسيّ. استمع إليهم كثيراً وطالع ما كتبوه من تقارير عسكرية وديبلوماسية وسياسية وقانونية وإدارية، وناقشهم في تفاصيلها.

عرف الرجل كيف يستفيد جيداً من خبرات هؤلاء، ويأخذ بنصحائهم في الكثير من الحالات. ولهذا ما كان يجتاز اجتماعاً استشارياً، ولا يفوّت مشورة هاتفية، حتى لو جازف باستخدام عفويته التي قد تدفعه إلى قول الأمور بصراحة.. قد تصل أصداؤها سريعاً إلى آذان المقصودين بها.

على خلاف الكثير من «رفاق السلاح» السياسي، لا يمانع سليمان من القراءة، لا بل يجيدها ويتمتع بها، وإن كان يفضّل الأوراق المختصرة المصوغة على طريقة «ما قلّ ودل»، إلا إذا كانت المسألة تتطلب إضاءة موسّعة على تفاصيلها، حيث ينصح أحياناً بتعميم التقرير على كل مستشاريه لأخذ العلم.

يطالع الرجل كل التقارير التي توضع على مكتبه صباحاً، وعلى أنواعها، من سياسية وعسكرية وأمنية تصله من الأجهزة المختصة، كما ملخّصات الصحف والتحاليل الإذاعية والتلفزيونية. يقول عارفوه إنّه يجيد الاستماع. قد يكون ذلك من باب تأكيد وجهة نظره ليس إلا، لكنه يوحي لمحدثه بأنّه سيأخذ بالاعتبار ما وضع أمامه من معطيات.

يميل إلى العفوية أمام من يكسبون ثقته، لكنه يترك مسافة الموقع قائمة. ولا شكّ في أنّ نشأته العسكرية تفرض نوعاً من الجمود على شخصيته، والذي لم يتمكن من تجميله أمام الرأي العام. عمليّ في متابعاته اليومية، فتراه محاطاً بقصاصات الأوراق والخربشات التي تدعّم ذاكرته.

الاجتماعات مع مستشاريه كانت يومية، وعندما تقتضي الحاجة. مجلس وزراء، جلسة تشريعية، تطورات إقليمية، رحلات خارجية… كلّ المحطات السياسية تكون مسبوقة بجلسات عمل مع أهل الاختصاص وفقاً لطبيعة العمل.

الأعضاء الدائمون في هذه الاجتماعات كانوا: خليل الهراوي وناجي أبي عاصي وجورج غانم، إلى جانب المدير العام لرئاسة الجمهورية طوني شقير. وفي بعض الأحيان يكون ناجي البستاني حاضراً، وقبل تعيينه وزيراً كان ناظم الخوري من ضمن هذه الدائرة، وينضم إليهم أحياناً العميد سالم أبو ضاهر.

هؤلاء هم «مطبخ السياسة» في القصر، وصانعو بروفيل الرئيس. لكل منهم دوره ومهماته، التي يكلّفه بها الرئيس، والتي يبادر بنفسه إلى تنفيذها. والأخيرة تطغى على ما عداها.

ويفضّل ميشال سليمان أن يقوم المحيطون به بمبادرات ذاتية في عقد لقاءات مع قوى سياسية أو الاستفهام من أصحابها عن مواقف معينة أو آراء محددة، وذلك ليترك لنفسه هامشاً واسعاً للمناورة، إماّ لتبني خلاصة حراك رجاله إذا اقتضت الحاجة، أو للتبرؤ منها إذا لم تتوافق حساباته مع نتائجها.

في العلاقة مع كل ما هو أجنبي، كانت بصمات أبي عاصي جليّة. سليمان التقى الديبلوماسي العتيق في روما حين كان لا يزال قائداً للجيش، وبعد وصوله إلى بعبدا جرى تعيين ابن السلك الخارجي مديراً عاماً ومن ثمّ مستشاراً في القصر.

أراد سليمان أن يكون حاضراً في السياسة الخارجية، فعلاً لا قولاً. ولهذا استعان بشخص ذي كفاءة عالية، ساعده على أن يمارس حضوره قبل دوره، في الشأن الخارجي. للرجل خبرته العريقة في هذا الشأن، تدعّمها منظومة العلاقات المتشعّبة التي نسجها مع شخصيات بارزة في دوائر القرار الدولي.

قبل الاجتماعات مع الزوار الغربيين أو حتى العرب، وقبل القيام بأي زيارة خارجية، يتولى أبي عاصي صوغ جدول محدد من النقاط المفترض إثارتها. يسمى Talking points، وتتم مناقشته في اجتماع الحلقة الضيقة للرئيس.

كما أنّ لمسات الديبلوماسي في خطب الرئيس حاضرة دوماً، لا سيما تلك التي تلقى في المحافل الدولية أو في الزيارات الخارجية وأمام الزوار الأجانب. هنا، يسجّل لأبي عاصي جهده المضاعف مع ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان ديريك بلامبلي، في ملف «مجموعة الدعم الدولية» وفي حضّ مكوناتها على استكمال عملها.

لا يخصّص الرجل مستشاريه بالتواصل مع شخصيات معينة. الأمر متروك لمنظومة علاقات «ضباطه» وطبيعة حركتهم السياسية. وعلى سبيل المثال، حصر الرئيس علاقته بـ«حزب الله» به شخصياً وبرئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد، فتعاملا مع كل ما لا يصدر عن لسانيهما، كأنّ لا وجود له.

طبعاً كان خليل الهرواي وجورج غانم يقومان باتصالاتهما مع نواب الحزب وقياداته، لكن لا يمكن لأي منهما أن ينقل كلاماً رسمياً أو أن يحمل موقفاً رسمياً. يكتفيان باستطلاع الأجواء أو بتسجيل الملاحظات لرفد مخزون الرئيس بإضافات جديدة.

كذلك العلاقة غير المنتظمة مع ميشال عون التي كان يتابعها بنفسه مع جبران باسيل، مع أنّها لم تتحسن إلا في الأيام الأخيرة من العهد، حتى لو أنّ الجميع «بلّوا أيديهم» فيها.

أما مع وليد جنبلاط فكان الوضع مختلفا كلياً. كل ليلة أحد يكون وائل أبو فاعور ضيفاً مميزاً في صالون الرئيس، وأحياناً الى مائدته ظهراً إذا استدعت الحاجة، لوضعه في آخر المستجدات التي تخصّ البيك، وتلك التي لا تخصّه. بدا الرجل كأنّه «مفوض عام» سياسي للقصر وأحد رجالاته غير المرئيين.

في حين حرص زياد بارود على إبقاء خيط التواصل متيناً بين بعبدا وبكركي، إلى جانب التواصل المباشر بين الرجلين المدعّم بمساعي بعض المطارنة.

لكن ميشال سليمان الأول الذي دخل القصر على صهوة قيادة الجيش لا يشبه ميشال سليمان الذي خرج منه من دون تسلّم وتسليم. هنا، لا تخفى لمسات جورج غانم التي بدت جلية على بورتريه الرئيس الإعلامية، وحتى على طلاته الخطابية، شكلاً ومضموناً.

صحيح أنّ الرجل كان يتدخل في مضمون ما سيبوح به على المنبر، لكن ثمّة تغييرات ما كانت لتظهر لولا «أنامل» غانم. الوضوح والكلام المباشر والتوجه إلى الهدف من دون مواربة، هي أسلوب الإعلامي الذي انتقل من الشاشة إلى خلف الكواليس من دون أن يغيب عن المسرح.

طبعاً، لم تكن علاقاته بسلّة المستشارين نسخة طبق الأصل عن بعضها البعض. فمع صديقه خليل الهرواي ثمة «خوش بوش» واستفاد من شبكة علاقاته لا سيما مع صديقيه فؤاد السنيورة وتمام سلام للمساهمة في تركيب حكومة «العجائب». وطبعاً لشخصية جورج غانم القدرة على فرض خصوصية ما في التعاطي، في حين أنّ أبي عاصي لم يحاول الخروج من تاريخه الوظيفي.

احتلّ الشأن العسكري حيزاً واسعاً من اهتمام الرئيس، وتعامل مع هذا الملف بعناية خاصة كونه ابن المؤسسة ومدركاً لخصوصيتها. ومع أنه القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلا انّه كان يترك هامشاً واسعاً لقائد الجيش لتقدير الموقف الميداني الذي كان يتعامل معه. وكان يحرص على التشاور دوماً مع اللواء عباس ابراهيم ومدير المخابرات في الجيش العميد الركن ادمون فاضل.

تقنياً، تولى المستشار العسكري مروان شربل، وقبله عبد المطلب حناوي، إعداد التقارير العسكرية بناء على ما يأتيه من الأجهزة الأمينة، ويشارك في الاجتماعات مع قائد الجيش، وفي بعض الأحيان يحضرها العميد المتقاعد بسام يحيى.

إلى جانب هؤلاء، كان هناك دائرة الشؤون الإدارية والقانونية، الدائرة الاقتصادية، لجنة هيئة الحوار الوطني، المكتب الإعلامي برئاسة الزميل أديب أبي عقل، غرفة الأوضاع، لجنة التعديلات الدستورية، ولجنة اللامركزية الإدارية… وعائلته، التي حاول أعضاؤها أن يحجزوا لهم أدواراً مناطقية، في حين لم يسجّل للسيدة وفاء تأثير يذكر في قرارات صاحب الفخامة، الكبيرة.

لكن ما لا يمكن الغياب عنه هو السمة العسكرية على المحيطين بالقائد السابق لقائد الجيش. فإذا ما جُرّد قصر بعبدا من هندسته المعمارية، لتحوّل إلى ثكنة يديرها ضباط متقاعدون وفي الخدمة، من رتبة عميد… إلى رتبة جندي.