Site icon IMLebanon

الموصل صدمة حقيقية للوعي المسيحي اللبناني

 

لم تُحصَر بعد تردّدات التهجير القهريّ لمسيحيي الموصل في أوساط مسيحيي لبنان، هذا البلد الذي ساهم مسيحي يتحدّر من أصول كلدانية عراقية، وهو ميشال شيحا، في التأسيس الفكري لصيغته التوافقية القائمة على الثنائية الإسلامية – المسيحية، وعلى قاعدة «جميعنا أقليات».

ليست هي المرة الأولى التي يتعرّض فيها المسيحيون لعملية تهجير قسري في الشرق الأدنى. لكن الاختلاف جذريّ عن المئة سنة السابقة. فالإبادة والترحيل اللذان تعرّض لهما الشعب الأرمني في الأناضول حدثَا بدوافع قومية، أكثر منها دينية، وبقرار من حكومة الاتحاد والترقي، لاقى قابليات أهلية وإثنية مواكبة، وفي سياق الحرب العالمية الأولى، والخطر الروسي الآتي من جهة القوقاز، والمتقاطع مع المطالب البديهية للحركة القومية الأرمنية. المجازر التي تعرّض لها الأشوريّون في شمال العراق في أيام الحرب الكبرى (مذابح سيفو) ثم في العهد الملكي (مذابح سميل عام ثلاثة وثلاثين) كان يختلط بها هي أيضاً العنصر القومي بالعنصر الديني، بدءاً من التناقض الإثني الكردي – الأشوري، ووصولاً الى تنظيم البريطانيين لتشكيلات مسلّحة أشورية، ووصولاً الى اصطدام الأشوريين وقياداتهم بالقومية العربية الهاشمية في العراق.

وفي مقلب آخر، لا يتصل بلغة المجازر، شكّلت المغادرة القسرية للمسيحيين الشوام واليونانيين من مصر في أيام جمال عبد الناصر محطة جديدة في مسألة مسيحيي الشرق، إلا أن هذه المغادرة كانت نتيجة التأميمات، وطغى عليها الطابع الاقتصادي. أما أعمال التهجير والنزيف الديموغرافي لمسيحيي لبنان أثناء الحرب، فاندرج في حرب أهلية لا يمكن الفصل فيها بين معسكر ملائكي ومعسكر شيطاني على طول الخط.

بهذا المعنى، ولو أن التهجير الذي تعرّض له مسيحيو الموصل لا يقارن في حصيلته الدموية لا بالمجازر التي طاولت الأرمن أو السريان أو الأشوريين أو الموارنة أو الأقباط في القرن الماضي، وتكاد تكون بسلمية مغادرة المسيحيين الشوام واليونانيين لمصر بعد التأميمات، فإن خطورة هذا التهجير في اللون الديني الخالص الذي أراده تنظيم «الدولة الإسلامية» لهذا الحدث، من دون أيّ تبرير قومي أو إثني أو اقتصاديّ أو عسكريّ من النوع الذي عرفناه طيلة القرن الماضي.

لا يعني ذلك أنه حدث يعيدنا ألف سنة الى الوراء. إنه يعيدنا بالأحرى، الى الحركة الاعتراضية على إلغاء السلطنة العثمانية لأحكام أهل الذمة وإقرارها المساواة في المواطنية بين المكلفين العثمانيين بموجب «خط شريف كلخانة» 1839 و«خط شريف همايون» 1853. بيد أنّ هذه الحركة الاعتراضية على الإصلاحات العثمانية، والتي كان لها رواج في أوساط شعبية غير قليلة، وصرّحت عن نفسها في مجازر دمشق ضد المسيحيين، كانت مع ذلك حركة تستظل برفضها نظام الامتيازات الأجنبية الذي كان يستفيد منه مسيحيون بلديّون كثر، وهذا موقف تشارك فيه مناهضو إلغاء الجزية، مع أنصار المساواة المطلقة بين سائر المواطنين العثمانيين. بالتوازي، اصطدمت الحركة الاعتراضية تلك بمبدأ وجوب طاعة أولي الأمر، وعلى رأسهم السلطان الخليفة، الذي كان وحتى انقلاب عبد الحميد الثاني على الدستور، يدعم الاصلاحات.

المثال الداعشي في الموصل يستأنف هذا الصراع ضد «تحرير المسيحيين»، إنما في شروط مختلفة تماماً. فنظام الامتيازات الأجنبية لم يعد موجوداً، وكذلك السلطنة. الانتداب البريطاني لم يمنع قتل الأشوريين، والاحتلال الأميركي نقل الهيمنة الفئوية في العراق من دفة بعثية الى دفة «حزب الدعوة». السلطان الخليفة لم يعد موجوداً، وبدل «المنازل الثلاثة» التي وزّعت جمهور المسلمين تدرّجياً بين الأمراء والعلماء والعوام، نحن أمام نموذج جهاديّ يخلط الحابل بالنابل، ولسان حاله أنّ «كل السلطة للدهماء»، في الأمرة والعلم سواء بسواء.

هكذا نموذج هو في الوقت نفسه مختلف عن كل ما نُكب به مسيحيو الشرق الأدنى في القرن الأخير، واستعادة لنقمة الكثيرين ضد المسيحيين في القرن التاسع عشر، إنما في ظروف مختلفة تماماً. بالتوازي هو نموذج يعود فيسائل العناصر الثلاثة التي نظّم من خلالها مسيحيو لبنان وعيهم لما يجمعهم وما يفرّقهم عن مسيحيي الشرق.

ففي لبنان، وتحديداً الموارنة، تراث يميّز المارونية كـ«وردة بين الأشواك» عن مسيحيي المحيط الخاضعين للشروط الذمّية. نكبة مسيحيي الموصل قد تعزّز هذا الشعور. هذا ايجابي من حيث يعطي ثقة، وسلبي إذا ما عزّز الشعور بالفرادة والانعزال عن قضية مسيحيي الشرق، وعن قضايا الشرق العربي ككل.

وفي لبنان، وانطلاقاً من ميشال شيحا تحديداً، نظرة للكيان على أنه ملاذ للأقليات المضطهدة في المحيط، علماً أن أكثر النزيف الديموغرافي المسيحي في سوريا والعراق كان باتجاه الغرب، وليس لبنان.

وفي لبنان وسوريا، أوهام كثيرة حول تكتيل الأقليات، مسيحية وغير مسيحية، تحت قيادة غير مسيحية، بل غير عربية، بل غير أقلوية، بل امبراطورية المسعى. وهذا أيضاً ينبغي الاحتراس منه. لسنا في زمن الصراع بين البيزنطيين والساسانيين، لتبحث كل فرقة مسيحية مشرقية مع من تقف وضد من على طول الخط. الحفاظ على الذات ينبغي أن يظلّ بمنأى عن أي مفاضلة نصف أيديولوجية نصف أسطورية، وقادراً على استيعاب ما يتعرّض له المسلمون من عذابات ومظالم، سواء في العراق أو في سوريا أو في فلسطين، وليس الوقوع في شرك من قبيل «لي عذاباتي ولكم عذاباتكم».