يتحدث اللبنانيون في السرّ والعلن عن الفساد ويعتبرونه المرض الخبيث المسبب لجميع مشاكلهم ومآسيهم، لاسيما هجرة أبنائهم وافتقار عائلاتهم وضياع أملهم بمستقبل واعد في وطنهم، ولكنهم في الوقت عينه، يقفون عند هذا الحدّ محجمين عن المبادرة خاصة في اللحظات الحاسمة كالاستحقاقات الديموقراطية، فلا يقترن التشخيص بالعلاج أو الدواء أما التبريرات فحدّث ولا حرج. من الضرورات الطائفية والمذهبية إلى الضرورات الوطنية والسياسية والحزبية والمناطقية وأخيراً وليس آخر، المصلحة الوطنية.. إنما وبصراحة تامة، يمكن اختصار كل هذه العناوين بما يُسمّى «السياسة» في لبنان والتي هي لا شيء الا سياسة تغطية الفساد مقابل.. السلطة وبالتأكيد ليس الدولة.
ما هي مكونات هذه «السياسة» وإمكاناتها؟ كيف تعمل وما هي أهدافها؟ ما هي وسائل الحماية المباشرة وغير المباشرة التي تعتمدها؟ كلها أسئلة تبدو الإجابة عليها معقدة وصعبة، ولكنها بكلمتين: نهج وثقافة تحيا وتدوم بالتسويات وتسخّر السياسة والقضاء والأمن والإعلام، فتستمر حلقة قوية ومترابطة نخرت الجسم اللبناني استغلّها المسؤولون، وتعاقبوا على إدارتها وحمايتها حتى ولو اختلفوا عليها وخالفوا الدساتير والقوانين، «بالسياسة بتنحلّ»، كما يقولون على أعلى المستويات… وبالتسويات لتبقى وتدوم النعم.
لا أبالغ بالقول، ومن موقع المسؤول، إنه لا أثر للدستور والقانون في المالية العامة منذ زمن طويل، فالموازنات غائبة والحسابات المالية السنوية مغيّبة لتغيب معهما المحاسبة ما يعني ان المال العام بشقيه الداخل والخارج إيرادات وإنفاقات سائب وكل الإجراءات الشكلية التي نراها من وقت لآخر، لا تعدو كونها شكليات تسووية كالتحقيقات والقرارات القضائية التي تبقى من دون متابعة أو كموافقة السلطة التشريعية على الحسابات المالية قبل العام 2010 في المجلس النيابي مع التحفظ لأنها غير «مكتملة».
ومن الوسائل المبتكرة لتغطية هذا الواقع ثلاثية الصناديق والاستدانة من دون سقف وسلفات الخزينة التي يشبه مصيرها مصير الطائرة الماليزية التي فقدت منذ بضعة أشهر وبدء بعض معالم لغزها يتكشف أما سلفاتنا فتبقى كما الكثير من إيراداتنا ـ ومنذ عقود مفقودة أي غير مسدّدة (مع التنويه بسعي وزير المال الحالي لوضع حدّ لهذه المخالفات والعودة الى احترام القوانين في الإنفاق). وعند السؤال عن الحلول إن لم يكن بالإصلاح يأتي الجواب «بلبنان ما بتنحلّ الا بالسياسة» والترجمة العملية تكون بتصفير الحسابات كل 20 عاماً أو بمشاريع القوانين المالية بثلاثة أسطر: «يوافق مجلس النواب على سبيل التسوية على الحسابات المالية للسنوات…».
لا حليف للإصلاح في مجتمعنا، بل للسياسة أولويات أخرى أهمها المحاور الخارجية وحساباتها والسلطة والنفوذ والموقع والسياسات والرهانات الخارجية التي لا مكان فيها للدستور والميثاق وللموازنات والحسابات المالية اللبنانية وسلسلة الرتب والرواتب للجيش والمعلمين والإدارة وحقوق البلديات والتعليم والصحة وضمان الشيخوخة الخ… ولا تدوم هذه الرهانات والخيارات إلا من خلال إمكانات والتي بدورها لا تتأمن من دون تغطية مخالفات «الضرورة الوطنية»، على حساب الحقوق والإصلاح. ومن أهم التبريرات لاستمرار الوضع وعدم الشروع بالإصلاح والإيفاء بالالتزامات أو التخلي عنها، بالإضافة الى «السياسة وأولوياتها» العذر المحلّ: التوقيت أو التوافق (…).
الإصلاح ممكن؟
يسير لبنان بخطى سريعة نحو إعادة تقييم مالية سلبية على المستوى الدولي بعد أن تجاوز عجزه السنوي 7500 مليار ليرة لبنانية أي ما يقارب الخمسة مليارات دولار سنوياً من دون موازنة وحسابات سنوية صحيحة ومن دون أن يؤدي هذا التطور إلى اعتماد أي تدبير إصلاحي جدي وفعلي أو الى زيادة إيراداته على العكس، فمن المرتقب أن يرتفع سقف إنفاق الدولة اللبنانية بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب، خصوصاً إذا ما تم ذلك من دون الإيرادات والضوابط والإصلاحات التي وضعتها اللجنة النيابية الفرعية الأولى التي درست المشروع ووضعت تقريرها المفصل منذ أشهر عدة.
وفي الوقت عينه، يتجه لبنان الى استحقاقات ديموقراطية دستورية جديدة رئاسية ونيابية كان قد أعطى إشارات سلبية في الأشهر الماضية حول إمكان حدوثها خاصة بعد التمديد الذي أقرّه المجلس النيابي لنفسه وما تبعه في سلوك مماثل على مستوى القيادات العسكرية ومخاض تأليف الحكومة الذي استمر 11 شهراً والرفض المبطن لإجراء انتخابات نيابية في لبنان تضفي شرعية دستورية وتمثيلاً حقيقياً قبل انتخاب رئيس جديد وذلك من خلال المتاجرة بالفراغ الرئاسي المطلوب ملؤه إن لم يكن بالتمديد فبالتعيين بعيداً عن ارادة الشعب. لذلك المطلوب لتدارك الكارثة السعي الى تحقيق التالي في الأيام والأسابيع المقبلة:
. إقرار قانون جديد للانتخابات عادل يؤمن التمثيل الصحيح والشراكة الفعلية ـ أي المناصفة ـ وذلك من ضمن المشاريع المقدّمة والموجودة في المجلس النيابي؛
. انتخاب رئيس استثنائي للجمهورية اللبنانية ومواجهة أي محاولة لتمديد الأمر الواقع في الرئاسة بحيث يتمتع الرئيس الجديد برصيد شعبي مسيحي وازن ومشروع إصلاحي واضح ويكون قادراً على الإلزام والالتزام؛
. إلزام الإدارة المالية باعتماد المبدأ المالي العالمي المعروف «لا إنفاق من دون إيراد مماثل للإنفاق في قيمته وطبيعته» و«لا إنفاق من دون اعتمادات مسنودة الى قوانين»، والشروع الفوري بإقرار سلسلة الرتب والرواتب بالتزامن مع الإصلاح الذي وضعت معالمه لجنة المال النيابية منذ 2009 من خلال 34 قراراً وتوصية أصدرتها خلال السنوات الماضية وأهمها اعتماد منهجية جديدة لإعداد الموازنة وإقرارها وإنجاز الحسابات المالية النهائية وإحالة القسم غير القابل للتدقيق على القضاء المالي وإخضاع الإنفاق لضوابط قانون المحاسبة العمومية ورفض أي تسوية تنال من الشفافية المطلوبة.
. إلغاء الصناديق وإنشاء وزارة التخطيط وإخضاع القروض والإنفاق للرقابة البرلمانية والقضائية.
ستبقى الدولة في لبنان شعاراً للاستهلاك الانتخابي وغطاء للفساد، إن لم نبدأ باحترام عقدنا الميثاقي وبالإصلاح فوراً وبعيداً عن «السياسة» سياسة التسويات.