فخامة الرئيس ميشال سليمان… وحده في هذه الأيام القاتمة يبث روح التفاؤل في شعبه وفي وطنه وفي دولته المزعوم أنها دولة مؤسسات.
وحده سبق أن عبّر عن شيء من التفاؤل بخصوص الإنتخابات الرئاسية، فأوحى في تصريح له مؤخرا، دون أن يؤكد، أن « الروح القدس» سيدفع بالبلاد وبزعمائها وبالمتحكمين بحاضرها ومستقبلها، إلى ابتداع حل لانتخابات الرئاسة الأولى ولتجنب الفراغ الرئاسي الذي يخشاه الجميع ويتخوفون من مزالقه ومطباته وأخطاره، ويلمح في ذلك إلى معجزة تشكيل الحكومة القائمة، وكيف أنها بين ليلة وضحاها زالت من حولها الغام الفيتوات المتبادلة والتهديدات المتقابلة، فجاء تشكيلها خاليا من معظم الشروط والشروط المضادة، وها هي اليوم قائمة… بقدرة «الروح القدس» نفسها… تحكم، وتحقق الأمن وتجري التعيينات الإدارية وتسعى إلى معالجة الوضع الإقتصادي. «الروح القدس» المقصود يتمثل في تلك القوى والأيادي شبه الخفية التي تتحكم بالنتيجة، بالإستحقاقات المصيرية المهمة بفجائيه وعجائبية تدهش الناس بحصولهـا، فيرددون أمام تحققها قول الإمام الشافعي المشهور ومؤداه أن الأزمة «قد فرجت وكان يظن بأنها لن تفرج».
كثيرون يعتقدون أن فخامة الرئيس مبالغ في تفاؤله، مع أن الغالبية العظمى من المسؤولين، وغير المسؤولين لا يشاركونه مثل هذا التفاؤل، ويبنون على الوقائع القائمة، أسوأ السيناريوهات، يشجعهم على سوء الظن والتوقع، مواقف الجهات المتقابلة و«المتقاتلة» بتبادل المآخذ وتراشق التهم وإيقاع المسؤوليات على الغير، وبعضهم يدفع الأحداث دفعا نحو المنظور المحظور: الفراغ، الفراغ من كل شيء. الفراغ من الرئاسة والرئيس، والفراغ من المؤسسات الرسمية على شتى أشكالهـا وأنواعها ودرجاتها، والفراغ من الميثاق الوطني ومن الدستور ومن القوانين، والفراغ من الوحدة الوطنية والإنتماء الواضح والثابت والأكيد إلى هذا الوطن الذي تحكمه الإهتزازات والزلازل المستمرة، بل إن ما اصطلح على تسميته فراغا إنما هو في الواقع قفزة في فضاء المجهول الواسع، الذي يدفع إلى التساؤل عما إذا كان هذا الوطن، وطنا قائما بالفعل، وسيبقى على ديمومته واستمراره في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ العالم التي ترسم فيها خرائط المناطق والبلدان والدول من جديد، ويعلن فيها البعض ويضمر فيها بعض آخر، عن رغبة ومطالبة وحاجة إلى تخطيط لوطن جديد بطابع جديد ونظام جديد، يبتعدون فيه كليا عن المطالب الجريئة السابقة التي طالب بها، وحقق بعضها مستنيرون تقدميون في هذا البلد الحافل بالعلم والثقافة والإبداع والرأي الحر المتطور والتي لبثت على مدى أجيال وعقود تسعى إلى إرساء هذا الوطن على قواعد الإبتعاد عن معالمه المهتزة وانشقاقاته الطائفية والمذهبية، وتجسيده بلدا لا أثر فيه للتوجه الطوائفي والفئوي، وإذا بنا اليوم أمام ايديولوجيات مستحدثة، نبتت هنا وهناك من فكر متسم بالتناقض والتناهض، بانيا الحياة السياسية والإجتماعية على قواعد الطائفة والمذهب بأقصى تطرفاتها، ومحققا جملة من الشروخ العمودية التي تكاد أن تكون غير قابلة للتقويم والإصلاح والتطور، فيدفع هذا البلد المنكوب، جملة من الأثمان المرّة التي تطاول كيانه ووجوده واستمراريته.
وقد بدأ ت آثار هذه الشكاوى تتمثل في وجوه تراجعية عديدة، فبات الشعب شعوبا بأشكال وألوان مختلفة، دون أن ننكر أن هناك مسيرات ولقاءات توحيدية ترسخ وجودها منذ بضعة أعوام، حتى لباتت مدماكا دفاعيا يعول عليه في عمليات الإنقاذ والخلاص المقبلة، وباتت الديمقراطية التي شكلت عنوانا أساسيا من عناوين لبنان التي يتفرد بها عن معظم بلدان المنطقة عنوانا ضائعا بين العناوين الأساسية التي تكاد أن تختفي من الوجود، وباتت الدولة التي أخذت تنشأ شيئا فشيئا منذ بداية عهد الرئيس فؤاد شهاب مبنية على عمل مؤسساتي متكامل، تتراجع عن أنظمتها وقواعدها المحققة، لتتحول إلى مجموعات متحاصصة ومتبادلة للمصالح، وللمنافع، ومتوزعة لمناطق ومواقع النفوذ والسلطة، وأصبح الميثاق الوطني والدستور وجهات نظـر متضاربة، تفصّلها كل جهة وفقا لقياساتها وتطلعاتها ومصالحها، وأصبح القانون، قابلا للإجتهادات الدائمة، فبات مطية يركبها كل متنقل بين المناطق والمطالب والمصالح والمنافع، وإذا بنا، بلا مجلس نيابي جديد منتخب وقريبا، يرجح أن نكون بلا رئيس جمهورية، ولولا استدراكات قليلة لطّفت من هول الأجواء العامة الملتهبة بتناقضات الزعامات والأحزاب والمواقع، لاكتمل النقل بالزعرور، ولكنا نتخاصم اليوم بأقسى أنواع المخاصمة وأشدها عنفا وحقدا.
ومع هذه الأوضاع العامة التي لا تبشر بالخير، تطفو على السطح العام جملة مـن المخاطر المترافقة والمتعاضدة لما فيه مزيد من الواقع المفزع والنظرة المتشائمة، فها هو الوضع الإقتصادي يزداد تهاويا، وها هي المطالب الإجتماعية تتكثف وتضع البلاد أمام خيارين متماثلين في مرارتهما : مطالب إجتماعية محقة متفلته إلي إضرابات ومظاهـرات وتهديـدات، ومطالب تناقضها متمثلة في هيئات إقتصادية تعاني كما يعاني اقتصاد هذا البلد من مخاطر التوقف والإقفال القسري والتسريح الجماعي، وأزمة سورية تقسو وتعنف وتلقي على لبنان واللبنانيين، بثقل النزوح الكثيف والإقامة المليونية الحاشدة ومنافسة اللبنانيين على أعمالهم وموارد رزقهم.
يضاف الى ذلك كله مقاومة نقلت اهتماماتها وصراعاتها وحروبها من الجنوب حيث العدو يمارس أطماعه ويطلق مخاطره إلى الداخل اللبناني، وصولا إلى العاصمة بيروت وسواها من المناطق اللبنانية الحساسة، والأدهى من ذلك كله، إنتقالها إلى الخارج اللبناني الى سوريا خاصة، حيث تشارك في الحرب ضد الشعب السوري وتكثف جهودها القتالية والتدميرية تحت شعارات ظاهرها ما تطلق عليه تسمية الممانعة، وباطنها «وظاهرها الآخر»، ارتباطات عضوية بإيران ومخططاتها ومطامعها بلبنان وبالمنطقة على النحو الذي صرح به مستشار الرئيس خامنئي الجنرال صفوي، منذ بضعة أيام.
ومع ذلك، مع كل هذه النظرة التشاؤمية التي تواكب الكثيرين، أيقظت بعض أحداث الأمس المستجدة ِ، دوافع متحسبة ومتحفظة باتجاه الأمل بتطورات إيجابية لعل أبرزها الدعوة التي وجهت الى وزير الخارجية الإيراني من نظيره السعودي للتباحث في شؤون وشجون البلدين وامتداداتها إلى المنطقة عموما وإلى لبنان خصوصا. وواكب ذلك تواجد كثيرين من أهل الحل والربط في الرياض، وليس صدفة أن يكون السفر الأميركي في لبنان متمترسا حاليا في اكثر من زاوية من زوايا الرياض، وليس صدفة كذلك أن يتواجد هناك كثيرون من ذوي العلاقة بلبنان وبأزمة رئاسة الجمهورية التي تهز استقراره في هذه الأيام العصيبة.
وبالتالـي: أية أقوال ستنطبق على الوضع اللبناني القائم؟
قول الرئيس سليمان الذي أشار إلى «الروح القدس» كوسيلة للخروج من الأزمة المستعصية، مشفوعا بقول الإمام الشافعي المشار إليه في هذه الكلمة ومشفوعا كذلك بالمستجدات على الصعيد السعودي – الإيراني، أم الأقوال المستخلصة من الواقع المظلم الذي نعيشه والذي يكاد كل أهل الحل والربط يجمعون على تعقيداته وخطورته.
وما على اللبنانيين إلاّ الإنتظار، بكثير من الصبر والقدرة على التحمل.