Site icon IMLebanon

بربرية القرن الـ21 بين غزة والموصل

مع تقدم القدرات التقنية والمالية تتعاظم القدرة على التدمير والقتل وإذلال الشعوب المحتلة والمخضعة كما في فلسطين عامة، وفي قطاع غزة الآن. ترتكب إسرائيل مجزرة توصف بالإبادة الجماعية. تدعمها في ذلك الإمبراطورية الأميركية بصلافتها، وتزودها بالمال والسلاح؛ وتدعمها أوروبا صاغرة للإرادة الأميركية وانسجاماً مع إرثها الامبريالي. هذه الأصولية في الغرب، سواء كانت مسيحية أو يهودية، تتوافر لديها القدرة الإنتاجية والمال. تعتبر ان ما لديها من دعم السماء، وما لديها من مال وقدرة تقنية، يخولانها، لا السيطرة على الشعوب الأخرى فحسب، بل تديرها أيضاً، وإعادة تشكيل مجتمعها. دمرت الإمبراطورية مجتمعات ودولاً عديدة. وهي في فلسطين تفعل الأمر نفسه بشكل أكثر وحشية وشمولية.

تجتاح الأصوليات الدينية مختلف أنحاء العالم، وهي لا تقتصر على الأصوليات الثلاث، المسيحية واليهودية والإسلامية، بل نراها عند الهندوس والبوذيين وغيرهم أيضاً. تتشابه جميعها في اعتبار نفسها ذاتاً منتفعة تستطيع إعادة تشكيل مجتمع الآخرين أو مجتمعها هي. في زمن تعاظم القوة التقنية والقدرة المالية تزداد الأصولية قدرة على «مصادرة الله» وإخضاع الآخرين. تعتبر ان الوسائل التي لديها تخولها أو تسمح لها بإعادة تشكيل المجتمعات الأخرى، أو ما يسمى الهندسة الاجتماعية. ما يرتكبه الغير (المتخلفون والمطالبون بحقوقهم) تعتبره أعمالاً إرهابية تستحق إبادة أصحابه. وتعتبر أن ما ترتكب هي تطبيق قانوني لتحقيق الأمن. الذات تحقق الأمن بالعنف، والغير لا يفعل سوى الإرهاب فلا يستحق إلا العقوبة. بنظرها، الشعوب العربية التي نزلت إلى الميادين تطالب بالكرامة والعيش والعدالة الاجتماعية، هي مجرد مجموعات إرهابية تستحق العقوبة. واحدة من هذه العقوبات هي جريمة الإبادة الجماعية، التي ترتكبها إسرائيل في غزة.

تجتاح الأصوليات هذا العالم بجميع أديانه. أما التي تؤكد حضورها عندنا، مثل القاعدة وداعش، فإنها وإن كانت تعاني من الانتفاخ الذاتي بمصادرة الله ودعم مال النفط الذي لا يجد تثميراً له إلا في الأصوليات، فإن الانتفاخ الذاتي لديها يؤدي إلى تدمير الذات، تدمير مجتمعها؛ وارتكاب أبشع الممارسات تجاه ما تظن انه هو الآخر في داخل مجتمعها. تدمر داعش الجماعة المسيحية في الموصل، تنطلق من تصنيفهم وكأنهم الآخر الداخلي، ثم تتجه إلى وضعهم خارج المجتمع عن طريق الجزية أو فرض اعتناق الإسلام. في البلدان التي تشكل مسرحاً لنشاط داعش حرب أهلية. لكن ما تفعله هذه تجاه المسيحيين، والأقليات الأخرى، هو مما يندى له الجبين، وهو مما يلحق العار بديننا وبتاريخنا وبتراثنا. هو أشبه بالانتحار الذاتي الجماعي. لدى هذه الجماعة تنتفخ الذات وتتعاظم تجاه الموضوع (وهو في هذه الحالة الأمر المستبعد والمقصي) وتسعى لتدميره. تقلِّد السادة الغربيين، كالأرنب الذي حاول الانتفاخ تشبهاً بالفيل وكانت النتيجة انفجار الأرنب. يقول أحدهم: هو انفجار الإسلام بين أيدينا؛ وهو في حقيقته انفجار المجتمع الإسلامي. أصولية الإسلام السياسي لا تقدر سوى على نفسها، هي انفراط المجتمع والحرب بين أطرافه. أصولية الغرب الدينية تفرض العقوبة والإبادة الجماعية على الغير الخارجي هي الأقوى وهي الأكثر قدرة على ذلك. وأصوليتنا تفرض الأمر نفسه في الداخل.

ليس في القول مساواة بين الضحية وجلادها، لكننا عندما نتكلم عن الموصل فمن غير المنطقي اعتبار المسيحيين وبقية الأقليات مجرد ضحايا. هم جزء قديم من المجتمع. وهم ليسوا «الآخر» الذي يتناقض مع الذات الأصولية الإسلامية. هم القاعدة التي استند إليها المسلمون وحكموا عندما كانوا أقلية عددية. تناقص على مدى التاريخ عدد غير المسلمين وذلك بسبب تحولهم إلى الإسلام. ولم يكن هذا التحول قسراً بل طوعاً. اعتبرهم المسلمون على الدوام، ومنذ ظهور الإسلام، جزءاً من المجتمع وليسوا آخر مزروعاً فيه. بالعكس زرع الإسلام بينهم عندما كانوا أكثرية. وهم لم يبدأوا بالصيرورة إلى أقليات إلا منذ القرن العاشر إلى الثاني عشر ميلادي، أي عندما بدأت ترجح كفة المسلمين عددياً.

ما استطاعت داعش ان ترتكب ما ارتكبته في الموصل لولا الدعم الذي وصلها.. يحار الباحثون في مصدر الدعم. لكنها بدون شك ألحقت العار بمجتمعنا العربي. وحدوث الأمر بالتزامن مع مجزرة إسرائيل ضد المستضعفين في غزة وفلسطين، يدفعنا إلى الربط بينهما واعتبار الواحدة منهما مكملة للأخرى؛ أو ان مصدر التخطيط لهما واحد.

تحاول داعش واخواتها ممارسة هندسة المجتمع في سوريا والعراق، وذلك بهدف إعادة تشكيل المجتمع. أما الأصولية اليهودية فهي تسعى لإلغاء المجتمع عن طريق إبادته. وهذه هندسة اجتماعية بلغت حدها الأقصى: إعادة تشكيل المجتمع بالإبادة والتهجير إلى الخارج. وفي القتل والتهجير نوع من إلغاء الذات، أو الانتحار القسري.

إسرائيل تريد كل شيء، كل فلسطين، ولا تعطي شيئاً. تقضم أراضي الضفة الغربية وتمارس أبشع أنواع الحصار على غزة برغم اتفاق أوسلو منذ عشرين عاماً، وبرغم الاتفاقات والمفاوضات اللاحقة، إلا ان الفلسطينيين لم ينالوا شيئاً سوى الخسران من أرضهم وكرامتهم. وقد سطرت المقاومات الفلسطينية أروع صفحات النضال ضد العدو الإسرائيلي. هم يقاتلون بكل ما لديهم؛ لكن ما لديهم قليل من عتاد وتجهيزات وقدرات تقنية. ولا ننتظر مفاجآت، سوى اتفاق هدنة تنقضه إسرائيل بعد حين. هم يمارسون منطق القوة بكل إجرام؛ ونحن نمارس منطق الضعفاء نتيجة أحوال مفروضة ولم تعد تطاق. والأيام القليلة المقبلة سوف تبين لنا ما يمكن الحصول عليه بنتيجة التفاوض.

مهما كانت الأسباب المباشرة للحرب الإسرائيلية على غزة، إلا ان الأكيد هو أن إسرائيل وُجِدت لشن الحرب كل بضع سنوات. تريد إسرائيل أمناً كاملاً وخضوعاً كاملاً، وهذا ما لم يتحقق في كل بقاع الأرض. إسرائيل التي تعتبر نفسها «شعب الله المختار» تريد أكثر بكثير مما يريده المتسلطون على النظام العالمي الذي يدعمها بكل ما تيسر وما لم يتيسر.

والنظام العالمي، بما فيه النظام العربي، الذي يرزح تحت أصولية المال والدين، لا يرى في ما يجري في فلسطين إلا مسألة أمنية تخص إسرائيل التي ترتكب باسم هذا النظام، المجازر تلو المجازر. يسمونها الحرب على الإرهاب. هي في حقيقتها بربرية جديدة. بربرية القرن الواحد والعشرين.