كانت صورة كل من فلاديمير بوتين وأبي بكر البغدادي هي المهيمنة على اجتماعات قادة الحلف الاطلسي في قمتهم التي انتهت امس في مقاطعة ويلز البريطانية. الاول بسبب الحملة التي يخوضها في شرقي اوكرانيا على رغم المعارضة الغربية للتدخل الروسي في تلك الدولة الجارة. أما البغدادي فقد نجح في فرض نفسه على الاطلسيين بحدّ السيف، بعد ان أقدم رجاله على ذبح صحافيَّين اميركيَّين على مرأى من العالم، ويهددون بذبح بريطاني.
28 زعيماً لـ 28 دولة غربية لم يجدوا الكثير يستطيعون به إحداث تغيير في الحالتين. ما يدل على مدى العجز الذي يشعر به العالم إذا قررت دولة ما أو تنظيم ارهابي، كما «داعش»، اللجوء الى البلطجة في مواجهة النظام العالمي السائد. اذ ماذا تستطيع الدول الغربية ان تفعل امام التمدد الروسي في اوكرانيا بعد ان تمكن بوتين من ابتلاع شبه جزيرة القرم بلا حساب، وها هو يدعو اليوم الى وضع سياسي خاص لمناطق الشرق الاوكراني، ما يعني عملياً قطع اوصال هذا البلد وإرغامه على دفع ثمن المطالبة بعضوية الاتحاد الاوروبي وحلف الاطلسي. في هذا الاطار، جاء تهديد الرئيس الاميركي باراك اوباما ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون في المقال المشترك الذي نشراه في صحيفة «التايمز» البريطانية، بالدفاع عن أعضاء الحلف في وجه أي تهديد روسي، فارغاً من أي قيمة، اذ ان التزامات الحلف لا تنطبق على اوكرانيا، باعتبارها ليست عضواً فيه. وبالتالي يستطيع بوتين أن يستفيد من هذا الفراغ الامني عند حدوده الجنوبية الغربية مع اوروبا ليزعم ان ما يحصل في اوكرانيا ازمة داخلية لا علاقة لموسكو بها.
اما في الجانب المتعلق بالحرب المفتوحة مع تنظيم «داعش»، فلم يجد الاطلسيون هنا ايضاً سوى الدعوة الى تحالف دولي واسع في وجه هذا التنظيم، من دون أي اشارة الى السبيل العملي للقضاء عليه ولاستعادة الغنائم التي كسبها على الارض، في سورية والعراق، واعادة الوضع السياسي والجغرافي في هذين البلدين الى ما كان عليه قبل تمدد «داعش» وبلوغه مرحلة التهديد الخطر ليس فقط لأمن المنطقة التي انطلق منها، بل ايضاً للأمن الغربي بشكل عام. ومن الدلالات البالغة الوضوح على هذا التهديد الارقام التي ذكرها ديفيد كاميرون عن اعداد المقاتلين من حاملي الجنسيات الغربية الذين يعملون لدى أبي بكر البغدادي: 500 على الاقل من بريطانيا، 700 من فرنسا، 400 من المانيا والمئات من دول اخرى من بينها الولايات المتحدة وكندا والنمسا والدانمارك واسبانيا والسويد وبلجيكا وهولندا واستراليا. وهكذا فإن «الارهابي جون» الذي وضعت الصحف الشعبية البريطانية صورته على صدر صفحاتها حاملاً سكين الذبح واعتبرت أنه المسؤول عن تصفية الصحافيَّين الاميركيَّين ليس الغربي الوحيد الذي استطاع «داعش» تجنيده، وربما لا يكون الاكثر شهرة والارفع درجة في القيادة.
هذه المشكلة الامنية والاجتماعية والثقافية التي فرضها «داعش» على عقول الغربيين وعلى مؤسسات الحكم عندهم باتت تفرض معالجة مختلفة وأكثر جذرية، لا بد ان تتعدى المواجهة العسكرية كما حصل سابقاً مع «القاعدة». واذا كان صحيحاً ما تحدث عنه اوباما وكاميرون، في المقال الذي أشرنا اليه، عن «قوس عدم الاستقرار» الذي يمتد من شمال افريقيا الى بلدان الساحل الافريقي وصولاً الى منطقة الشرق الاوسط، فإن الاكيد ان اعادة الاستقرار الى هذه المناطق تحتاج الى اعادة قراءة وتصحيح للمفاهيم والقناعات الدينية لا بد ان يقوم بها أهل هذه المناطق انفسهم، قبل ان ينجح التدخل الغربي في إحداث أي تغيير، بل ربما كان تدخله سبباً في تعميق الازمة وتفاقم عدم الاستقرار.
لقد نجح تسرب هذه القناعات والمفاهيم المتطرفة في الوصول الى عقول مئات الشباب الغربي الذي يفترض ان يكون قد نشأ في بيئات ومجتمعات بعيدة عن التعصب والانعزال. وهذا يقتضي ايضاً ان تنظر المجتمعات الغربية الى ذاتها وان تعيد النظر في سياسات الاندماج التي تتبعها، لأن ما أثبته اتساع رقعة انضواء الشباب الغربي تحت علم «داعش» ان الازمة الثقافية ليست أزمة شرق أوسطية او عربية فقط، فالمجتمع الغربي لا يوفر هو ايضاً المناعة التي كنا جميعاً نتوقعها.