موسكو
لم تكن كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أمام سفراء روسيا وممثليها في الخارج أمس، شاملة وطويلة، ولم تأتِ بجديد في مواقف موسكو، إلّا أنها أكّدت الاستمرار في النهج السياسي نفسه على الساحة الدولية، ووضعت النقاط على الحروف في تحديد بوصلة السياسة الخارجية الروسية في المرحلة المقبلة.
أعلن بوتين صراحة انتهاء عصر القطب الواحد، وأنّ ازداوجية المعايير في العلاقات مع روسيا لا تعمل، ما يؤكد استمرار موسكو في سياستها المتبعة منذ عودته الى الكرملين. الاشارة الاهم في كلمة بوتين هي «أنّ شعوباً ودولاً تعلن عزمها تقرير مصيرها بنفسها والحفاظ على هويتها الثقافية والحضارية، على رغم محاولات بعض الدول السيطرة على قدراتها في شتى المجالات، خصوصاً العسكرية والسياسية والاقتصادية والايديولوجية». ما يعني أنّ روسيا في صدد إنشاء حلف دولي في مواجهة محاولات الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها للسيطرة، وقد ظهرت بشائر ذلك الحلف بتشديد بوتين على توطيد أواصر العلاقة مع الصين على المستويات كافة، وما تشبيه بوتين لِما تشهده أوكرانيا بما يحصل في سوريا والعراق وليبيا سوى تأكيد لثبات مروحة المواقف الروسية في هذه الملفات.
إتهام بوتين لواشنطن بالضغط على باريس بهدف عرقلة إتمام صفقة حاملة الطائرات «ميسترال» مع روسيا، هو بمثابة حصر المواجهة مع واشنطن، وتحييد الأوروبيّين عن واجهة الحدث، واصفاً سياسة واشنطن بأنها ابتزازية وترهيبية. ويرى مراقبون أنّ إصرار بوتين على حصر المواجهة مع واشنطن هي محاولة لحلحلة عقد الازمة الاوكرانية بعيداً من الدور الاميركي الذي يعمل ضمن اطار وضع «العصي في الدواليب»، من دون الأخذ في الاعتبار المصالح الروسية في أوكرانيا. وآخر تلك المحاولات كان التمدّد في اتجاه مياه البحر الاسود التي تشكل منفذاً أساسياً لروسيا في اتجاه أوكرانيا وبلغاريا وجورجيا ورومانيا وتركيا التي تستطيع عبرها الوصول الى المياه الدافئة. وبالتالي، سيُقيّد وصول «الناتو» الى القرم حركة القوات البحرية الروسية، الأمر الذي دفع روسيا الى استعادة شبه جزيرة القرم على رغم الرفض الدولي. ولكنّ الأهم في مواقف بوتين، بحسب مراقبين، هو الاشارة إلى عدم ثقته في بناء علاقات متوازنة مع الغرب، إذ إنّ القيصر الروسي ترك الباب مفتوحاً في هذا المجال، سائلاً: «هل يمكن العمل على الساحة الدولية بهذا الشكل؟».
لا شك في أنّ اعتماد بوتين توجيه الاتهامات ضد واشنطن في الشأن الاوكراني ينطلق من التوافق المبدئي الذي حصل في الاتصال الهاتفي الرباعي أمس الأول مع الرئيس الاوكراني بترو بوروشنكو والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند والمستشارة الالمانية أنجيلا ميركل، على ضرورة تمديد الهدنة في مناطق النزاع إفساحاً في المجال أمام فتح قنوات الحوار الداخلي. وقد وافقت موسكو كذلك على نشر مراقبين من مجلس الامن والتعاون الاوروبي لمراقبة حدودها مع أوكرانيا، لكن هذه الإشارات الايجابية الروسية لم تلقَ صداها في اوروبا، لا بل أعلن الرئيس الاوكراني بعد الاتصال وقف العمل بالهدنة واستئناف العملية العسكرية جنوب شرق البلاد. ولعلّ هذا ما دفع بوتين الى تحميل المسؤولية كاملة إلى القيادة الاوكرانية الجديدة وتوجيه الانتقادات الى بروكسل، خصوصاً أنها تحتضن اوكرانيا في مواجهتها مع روسيا وترفض تقديم الدعم المالي لها لتسديد مستحقات ديون الغاز المتراكمة عليها، معتبراً أنّها سياسة ابتزازية تحاكي السياسة الاميركية، وبذلك تكون كل ابواب الحل قد أُقفِلت، لتضع موسكو أمام الاستمرار في نهج «الدفع المسبق» في توريد الغاز الى كييف.